IMLebanon

باريس تتدخّل وعينُها على واشنطن

ترصد القوى السياسية اللبنانية التحضيرات لانطلاق الحوار المباشَر بين تيار «المستقبل» و«حزب الله». وتبدو الأطراف التي قلَّلت من احتمالات صدور تفاهمات أساسية تنعكس إيجاباً على الأزمات التي تخنق لبنان، أكثرَ الجهات الساعية إلى استكشاف كلّ زوايا هذا الحوار، بما فيها زاوية الاستحقاق الرئاسي، والمقصود بهذه الجهات القوى المسيحية.

صحيحٌ أنّ كلّ الكلام الذي صدر عن طرفي الحوار، حصَر الموضوع في إطار تنفيس الاحتقان المذهبي السنّي – الشيعي في لبنان، وبأنّ ملفّ رئاسة الجمهورية لا يمكن طرحه في غياب الطرف المسيحي. إلّا أنّ القنوات الخلفية لتيار «المستقبل» و»حزب الله» لم تستبعد إنجاز ترتيبات ولادة الرئيس العتيد لدى وصول الحوار إلى خواتيمه.

وبعيداً من المعلومات، فإنّ المسار المنطقي للأمور لا بدّ أن يذهب في هذا الاتجاه، خصوصاً في ظلّ الانفراجات الإقليمية، وفي طليعتِها التفاهم الاميركي – الإيراني غير المعلن.

كانت واضحةً إشارةُ مرشد الثورة السيّد علي خامنئي حين منعَ عشرات النواب الإيرانيين من استجواب وزير الخارجية محمد جواد ظريف عقبَ عودته من فيينا. وكانت أوضح معاني تلك الصوَر التي جاءت من العراق لقائد فيلق القدس قاسم سليماني وهو يرقص ابتهاجاً بضرب «داعش» من إحدى تلك الجبهات المفتوحة.

فرحة سليماني وقيادته المباشرة للمعارك، لم تُثِر ردودَ فعلٍ شاجبة أو غاضبة من العواصم الغربية، لا بل على العكس، فقد رحّبَ وزير الخارجية الاميركي جون كيري بالغارات الجوّية الإيرانية على مواقع «داعش» في العراق.

أضِف إلى ذلك عشرات المؤشّرات البليغة التي لا يمكن وضعها إلّا في إطار حصول تفاهمٍ في العمق بين واشنطن وطهران. تفاهُمٍ انعكسَ مباشرةً على سوريا، إنْ ميدانياً عبر استنساخ تجربة بيروت خلال الحرب على حلب، وبالتالي التفاهم على تقاسُم مناطق السيطرة فيها، أو سياسياً عبر إنضاج حلّ يتلخّص بحكومة وحدة وطنية تُنقَل إليها بعض السلطات الموجودة في يد رئيس الجمهورية، على أن يبقى بشّار الأسد رئيساً في انتظار تنظيم انتخابات رئاسية جديدة.

وهو حلّ تعمل واشنطن على صوغِه عبر الأمم المتحدة، فيما فُتِحت أبواب التعاون الأمني المباشَر مع دمشق للمرّة الأولى منذ العام 2011. وهذه الصورة لم تكن الرياض بعيدةً عنها، لا بل حازت على موافقتِها مع زيارة وزير الخارجية سعود الفيصل إلى موسكو أخيراً. وليست هذه القراءة فقط هي وراء تعويل بعض اللبنانيين على آمال حذِرة.

ففي باريس بدا المناخ أفضل من السابق حيال الملف اللبناني، إذ لمسَ جان فرنسوا جيرو ليونةً إيرانيّة تجاه الملف، وهو أبلَغَ الذين التقوه في باريس من زوّاره اللبنانيين، وهم كثُر، أنّ ظريف دعا الأطراف الدوليين المعنيين في الشأن اللبناني إلى التواصل، كلٌّ مع حلفائهم.

على هذا الأساس تحرّكَ جيرو في اتّجاه بيروت، فهذه لغةٌ إيرانيّة جديدة تخفي في طيّاتها كثيراً من المرونة، ولو أنّها لا تُعتبَر أبداً ضمانةً أكيدة ونهائية.

وعلى الخط نفسِه، تحرّكَ المبعوث الخاص للرئيس الروسي نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف، على أن يزورَ لبنان لاحقاً موفدٌ إيرانيّ، فيما دخلَ الفاتيكان بدوره على الخط معلِناً بوضوح عبر السفير البابوي غابرييل كاتشيا منحَ الدعم الكامل لحوار «المستقبل» – «حزب الله» والتحضير لممارسة الخطوات المطلوبة والضاغطة، إنْ تطلّبَ الأمر، للمساهمة في حلّ عقَدِ الاستحقاق الرئاسي عندما يصبح الحوار ناضجاً لذلك.

لكنّ باريس الحذِرة جدّاً، تُدرك أيضاً أنّ ملفّ الاستحقاق الرئاسي لا يشبه أبداً تأمينَ ظروف ولادة حكومة الرئيس تمّام سلام. فعلى مستوى الملف الحكومي كان هناك تكليفٌ أميركي واضح لفرنسا التي نجحَت في مهمّاتها من خلال تواصلِها مع إيران.

أمّا اليوم، فإنّ أبعادَ الاستحقاق الرئاسي أكبر من الحكومة، ولا يمكن أن يُنجَز إلّا بعد حصول سلّة تفاهمات تطاوِل كامل الصورة المقبلة للدولة اللبنانية، وهو ما سيُطرح على طاولة حوار «المستقبل» – «حزب الله».

ولذلك ربّما لم تحصل باريس على تكليف أميركي كامل وواضح كما في ملف الحكومة، بل تشجيع على الحركة، وربّما لإحداث الخرق المطلوب ليس أكثر، على أن تتولّى واشنطن الملفّ كاملاً بعد ذلك.

في كلّ الأحوال، اختلفَ أسلوب السفير الأميركي في لبنان ديفيد هيل خلال لقاءاته بالمسؤولين اللبنانيين، فهو بات يستعرض كاملَ جوانب الملف اللبناني وليس فقط ملفّ الرئاسة، وغابَ عن لقاءاته استعراض أسماء المرشحين الجدّيين ربّما لاعتباره أنّ الأهمّية هي للاتّفاق الشامل، وأنّ اسمَ الرئيس لن يشكّل عقبَة، وقد يترك اسمه للقوى اللبنانية بعد تحديد مواصفاته، كأن يحظى برضى معظم القوى ولديه مرونة سياسية وقدرة على احتضان الجميع.

ولكن لهذا الاتفاق مستلزماته وممرّاته الداخلية الإلزامية، مثل شموله العماد ميشال عون الذي يربط «حزب الله» موقفَه به. ويبدو أنّ أحدَ الأطراف الديبلوماسية سيتبرّع بوضع عون في تفاصيل الحوار بين «المستقبل» و»حزب الله» وأخذ ملاحظاته.

فصحيح أنّ الحزب سيضع «حليفه» في صورةِ ما سيحصل لكنّ لـ»الوساطة» الديبلوماسية طابعاً أكثر رسميّةً. كلّ ذلك يعني أنّ المسار لا يزال بحاجة لاستنزاف كثير من الوقت والجهد مع التحوّط للمفاجآت الأمنية التي يسعى إليها جميع المتضرّرين، وهم كثُر.