IMLebanon

باريس.. الصراخ اللبناني وسكون الحداثة

التجوّل في المعرض الدولي للسيارات الذي تستضيفه العاصمة الفرنسية، يوجع الرأس.

وجع الرأس يبدأ مع بداية اطلاعك على أحدث السيارات والتقنيات المستخدمة فيها: السائق الآلي الذي يحل مكانك في القيادة. المحركات التي تعمل على الكهرباء.

ويتفاقم هذا الوجع، بمجرد أن تجد نفسك مضطرا الى السؤال عن قدرة لبنان على استيعاب هذا التطور الميكانيكي المذهل.

هنا لا نتحدث عن البشر. اللبناني في صلب هذه الثورة الميكانيكية. كارلوس غصن، على رأس شركة «رينو» نجمها. الحديث هنا عن الدولة وعن قدرتها على توفير البنية التحتية الضرورية.

تقارن بين هذه السيارات التي تحتاج الى تنظيم السير، وتعبيد الطرق وفق أحدث النظم، وإلى مداخل تغذية كهربائية، وبين دولة عاجزة عن تحديث طرقها ومعالجة نفاياتها وإزالة مخالفاتها ناهيك بتوفير الكهرباء وإنشاء المواقف.

والمقارنة تقودك الى سؤال-هاجس: هل يستحيل علينا، في ظل هذا الإهتراء، أن نلحق بركب التقدم والتطور؟

واللحاق بركب التطور ليس مسألة هامشية، بل هي مسألة حياة أو موت، في المرحلة التي تلي السنوات الخمس المقبلة.

هي مسألة محاربة التلوث ومخاطره على الصحة وبالتالي على الميزانيات الاستشفائية والعلاجية الشخصية والعامة.

هي مسألة من ينقذ بلاده من أن تكون مجرد حفرة ترمى بها نفايات التكنولوجيا الحالية التي ستصبح قديمة، بأسرع مما نتصوّر.

في معرض السيارات الباريسي هذا، تحملك الإختراعات إلى بيروت وواقع بيروت ومستقبل بيروت وقدرة بيروت و… سياسيي بيروت.

باريس تعاني هجمة إرهابية غير مسبوقة، لكن «حالة الطوارئ» المعنية بها أجهزة الأمن، لا تلغي العمل على المسائل التي توفر رفاهية المواطن.

الارهابيون الذين يهددون هذه العاصمة، هم في صلب الحملات الانتخابية، ولكنهم لا يوقفون تطبيق قواعد النظام الديمقراطي القائم على توليد السلطة وفق الإرادة الشعبية.

الخلفيات الدينية التي تعطى لموجة الإرهاب الحالية، تسمح للبعض برفع شعارات بأبعاد دينية، ولكنها لا تدخل تعديلات «إستغلالية» على التوازنات الوطنية المستقرة في الدستور.

ومخاطر عمليات القتل التي عانت منها باريس ومدن فرنسية أخرى، لا تتقدم نهائيا على الاهتمام بمخاطر الإرهابي الأكبر المتمثل بتهديد ديمومة كوكب الأرض وساكنيه.

وهذا بالتحديد ما تلمسه في معرض السيارات الدولي.

السيارات الكهربائية التي تتطور بسرعة مذهلة، خصوصا مع تطوير التقنية التي باتت – حتى هذه اللحظة- تعطي السيارة استقلالية حركة تصل الى 300 كيلومتر، لم تأت فكرتها من فراغ، إنما من قياس نسبة التلوث الذي تزفره السيارات العاملة على الوقود- مهما كان نقيا- وانعكاسات هذا التلوث على صحة الإنسان ونوعية حياته والميزانيات الضخمة التي تتطلبها المعالجات، بالإضافة طبعا الى تأثير هذا التلوث على ارتفاع حرارة الأرض مما يهددها بكوارث تصل الى حد فناء الحياة عن كوكبنا.

واللجوء الى القائد الآلي للسيارات هو الآخر لم يأت من فراغ، بل من هاجس الحكومات في العمل بجهد على تخفيض الوفيات الناجمة عن حوادث السير.

أين لبنان من كل ذلك؟

هذا ليس سؤالا يتصل بموضوع إيتوبي- طوباوي، بل بالحياة ونوعيتها وكلفتها وديمومتها.

لبنان غافل عن كل ذلك، بسبب تلهي قواعده الشعبية بصراعات المتسلطين. هذا يريده أرض جهاد وذاك يريده أرض نصرة. هذا يريده كونتوار سمسرة وذاك يريده شركة أرباح. هذا يثري على حساب بحره وأنهاره وذلك يطمح بعوائد نفط سيبقى على ما يبدو مطمورا حتى يصبح أبخس من الفحم الحجري.

وفي حمأة الصراع الذي يأكل الدولة ومواردها وينهي الإدارات ووظائفها، يتقدم العالم في ثورة تكنولوجية جديدة، من شأنها، إذا ما استمرت أحوالنا على ما هي عليه، أن تحدث هوة عميقة بيننا وبينه.

العالم يكون في الطرف الحديث ونحن في الطرف المتهالك. هو في الطرف النظيف ونحن في الطرف المتلوث. هو في الطرف الذي يحمي الحياة ونحن في الطرف الذي يجلب الموت.

وأنت خارج من المعرض الدولي للسيارات، تتخيّل نتاج هؤلاء العاملين بصمت، ونتاج الأصوات العالية التي في بلادنا.

العاملون بصمت يجهزون شعوبهم لمستقبل مزدهر. الأصوات العالية في بلادنا لم تنتج حتى الآن سوى مشاكل في …»طبلة الأُذن»!