عندما يتعطل المنطق، تنشط التخيلات وتتضخم الأوهام، هذه الظواهر التراجعية في مسارات الشعوب نلمسها جلية في مجتمعاتنا العربية وعبر الفضائيات التي تعج بها سماء المنطقة، والمتخصصة بمخاطبة شعوب خذلتها ثورات الفوضى الخلاقة، وتلاعب بمشاعرها العتاة والماكرون، فراحت تبحث عن المستقبل الأفضل، في أبراج المبرجين وأحاجي المشعوذين، وبين ثنايا الغيبيات المتنامية على هوامش الدين.
في الدراسات ان هناك ٢٦٢ قناة تلفزيونية تتحدث العربية، وبلسان العرب من دون قلوبهم، تتبعها آلاف المواقع الالكترونية، لتتولى جميعها، أوسع عملية غسل دماغ لأمة في التاريخ…
البعض يعتقد أن مثل هذه العملية بدأت مع انزراع اسرائيل في قلب المنطقة وفلسطين، والبعض الآخر يتجاوز البدايات التي اتسمت بالصراعات العسكرية المباشرة مع الدولة الصهيونية، ليصل الى أواخر الثمانينيات، وتحديداً فترة سقوط منظومة الاتحاد السوفياتي والطحشة الأميركية، وتحوّل جحافل الحرب الباردة المنتصرة على السوفيات، باتجاه الاسلام الأصولي المتنامي في تربة الظلم الاسرائيلي والدولي للشعب الفلسطيني، المدعوم بصمت الأنظمة المستبدة والتابعة والتي سرعان ما بدأت بمواجهة هذا المد بمثله، اي باختراع أصوليات أكثر تطرفاً من القائم، وعلى طريقة داوني بالتي كانت هي الداء…
مع زوال الخصومة السوفياتية للغرب، كان لا بد من تشكيل خصومة تبرر استمرار الصراع والحروب وتشغيل مصانع السلاح وامتصاص غلة النفط. وقبل كل هذا وذاك ضمان وجود اسرائيل… فنشأت القاعدة وطالبان وحماس والجهاد الاسلامية وبوكو حرام وغيرها من التنظيمات الجهادية الرافعة شعار المقاومة، أو الخلافة الاسلامية السنية، يقابلها على الجانب الشيعي حزب الله وأنصار الله ومجموعة التنظيمات المسلحة الشيعية في العراق واليمن.
وشيئاً فشيئاً، صارت مقاومة الاحتلالات، دفاعاً عن المقدسات الدينية، وآزرها على الجانب الآخر، اعتبار هذه الأصوليات ارهاباً دينياً، ورفضاً للآخر، ومثل هذا التوصيف لم يكن بحاجة الى شواهد، فما حصل في لبنان وسوريا والعراق واليمن على أيدي الأنظمة والتنظيمات وقبله في نيويورك وبلغاريا وأخيراً في باريس، شاهده منه وفيه…
ورب قائل ان مختلف الهجمات الاصولية المصنفة ارهابية كانت رداً على ارهاب من نوع آخر، أكثره أوروبياً، تمثلا بالتعرض للدين الاسلامي من خلال وسائل الاعلام، وبالذات للرسول الأكرم، في قصد استفزازي واضح للجاليات الاسلامية ومن خلفها العالم الاسلامي. أو لمشاركة الجيوش الاوروبية في الحملات ضد القوى المسلحة الحاملة لراية الاسلام، من افغانستان الى العراق فسوريا واليمن الآن…
والراهن أنه في كل فترة وأخرى، تستفز مشاعر المسلمين، وخصوصاً في العالم العربي، عبر الاساءة لسيرة النبي. ففي العام ٢٠٠٤صدر كتاب باسم نبي الخراب للمؤلف كريك ونن، ومضمونه يُعرف من عنوانه، ومثله رسوم كاريكاتورية نشرتها صحيفة يولاندس يوستن الدانمركية، وهي نفسها الرسوم التي أعادت نشرها أسبوعية شارلي ايبدو الفرنسية، وأحرقت مكاتبها انتقاماً لذلك، وفي عام ٢٠٠٦ نشرت صحيفة مكازيت النروجية وصحف اوروبية اخرى، صوراً كاريكاتورية مسيئة للرسول، من دون مبرر أو مناسبة معروفة، أو معلنة، مما يكشف عن تعمّد الاستفزاز.
وآخر هذه الاعمال كان الفيلم الاميركي الذي انتجه القبطي المصري نيقولا باسيلي والذي استدرج المتعصبين والمتسترين بالدين في مصر والسودان وتونس واليمن وليبيا وغيرها من البلدان، الى الخروج للشوارع، والكل يذكر حرق القنصلية الأميركية في بنغازي ومقتل السفير كريستوفر ستيفنز بداخلها على أيدي ميليشيات مسلحة غاضبة.
واضح من هذه المبادرات الاستفزازية، أن ثمة قوى عالمية واسعة التأثير والسيطرة توظف الاعلام الهامشي، بغرض اظهار المسلمين، وخصوصاً المنتشرين منهم في اوروبا، على انهم متخلفون وغير حضاريين وبالتالي غير جديرين بالحرية والاستقلال، بدليل ما ينزلون بأنفسهم في بلدانهم…
والمستفيد الوحيد من كل هذه الفوضى غير الخلاقة وغير البناءة، اسرائيل وليس أحد سواها…
وتسأل دبلوماسيين عرباً، عن دور السفارات، ولماذا لم تتحرك لمراجعة الدول المعنية، أو للتواصل مع وسائل الاعلام، لوقف هذه الاستفزازات المسيئة لمصالحها بالنتيجة، فيكون الرد بالقول: نراجع ونكتب الرسائل والمذكرات فيكون الجواب واحداً: انها حرية الرأي، وحرية الرأي مقدسة عندنا، ومطلقة…
ولكن لنطرح السؤال معكوساً، لماذا لا تكون ردود افعالنا على هذه الاستفزازات المقيتة، من وزنها، الرد على الرسم الكاريكاتوري برسم كايكاتوري، وعلى المقال بمثال يعكس روحية الاسلام واخلاقية نبي المسلمين ورقي المجتمعات الاسلامية؟
وبالتالي ماذا لو ذهب أئمة مرتكبي جريمة باريس الى مقر الصحيفة، وجادلوهم بالتي هي أحسن، وقابلوا البينة بالبينة والحجة بالحجة، بدل ارسال المجموعة المسلحة لترتكب هذه المجزرة بداعي الانتقام لرسول لا يتقبل الثأر ولا يقر الانتقام؟
عام ١٨٨٢ نفى الانكليز إمام المصلحين الشيخ محمد عبده ١٨٤٩ – ١٩٠٥ الى بيروت، لاشتراكه في ثورة أحمد عرابي ضدهم، فسافر من بيروت الى باريس ليعود الى مصر بعد سبع سنوات وليطلق مقولته الشهيرة: عندما كنت في بلاد الفرنجة وجدت اسلاماً ولم أجد مسلمين، ولما عدت الى مصر وجدت مسلمين ولم أجد اسلاماً…
الواقع انه بعد مراجعة ردود فعل رجال الدين الاسلامي في بيروت والقاهرة ومختلف العواصم العربية والاسلامية الشاجبة والمتبرئة والمستنكرة، يتبين ان الاسلام ما زال بخير وكذلك المسلمين، واما منفذو الجريمة النكراء، فانما هم ضحايا للمفاهيم الخاطئة والجهالة المدقعة، والاحساس بالتهميش، وأمثالهم موجود في كل مكان وزمان.