حسمت وزارة الخارجية الفرنسية امس الاول الجدل القائم منذ فترة حول الاجتماع الخماسي من أجل لبنان. فأكّدت أنّها ستستضيفه الإثنين المقبل، «لتشجيع السياسيين اللبنانيين على إيجاد مخرج للأزمة التي يتخبّط فيها بلدهم». وجاءت هذه الخطوة على وقع حملة ديبلوماسية قادتها وزيرة الخارجية كاترين كولونا شخصيًا، وهو ما طرح اكثر من سؤال حول حجم اللقاء، وإن كان يُقاس بحجم التحضيرات التي سبقته، إن لم يكن لبنان جاهزًا لملاقاتها؟
حتى الأمس القريب، بقي الحديث عن لقاء باريس الرباعي الخاص بلبنان قبل ان يتحول خماسيًا، موضوع جدل بين نفي انعقاده وتأكيده، بعدما تعدّدت المواعيد التي قُطعت له منذ مطلع السنة الجديدة. فقيل اولًا انّه سيلي عطلتي عيدي الميلاد ورأس السنة، إلى الثلث الأخير من كانون الثاني الماضي، فإلى الموعد النهائي الذي حُدّد الاثنين المقبل في السادس من شباط الجاري. وتزامن ذلك مع حديث غامض استهلك كثيراً من اللغط، حول حجم التمثيل الذي سيحظى به المؤتمر، من سيناريو تحدث عن مستوى وزراء الخارجية الاربعة، قبل ان يتحول خماسيًا بانضمام الجانب المصري إليه، قبل ان تحسم المعلومات انعقاده على مستوى رؤساء الدوائر المعنية بلبنان، بمشاركة عدد من الخبراء في مجالات الاقتصاد والمال والطاقة والمساعدات الانسانية، عدا عن الموفدين المكلّفين ملف لبنان في أكثر من مؤسسة رسمية وخاصة وممثلي هيئات أممية ودولية ومحلية.
قبل هذه المحطة الحاسمة التي رسمت الإطار النهائي للقاء في حضور أطرافه الخمسة ممثلي كل من فرنسا والولايات المتّحدة والسعودية وقطر ومصر وجدول اعماله، كانت التقارير الديبلوماسية قد تحدثت عن حماس متفاوت وآراء مختلفة حول ما يمكن القيام به تجاه ما يجري في لبنان. هو أمر قادت اليه حال من النفور المتبادل بين بعض الأطراف الخمسة، تسببت به نظريات مختلفة حول ما يمكن القيام به في ظلّ تخلّف اللبنانيين عن تقديم أي خطوة تستدرج هذه الاطراف إلى توسيع إطار مبادراتها وتجاوز ما يحظى به لبنان من مساعدات انسانية وطبية واجتماعية واخرى تتعلق بمساعدة المجتمعات المضيفة للنازحين السوريين، وما تسببت به جائحة كورونا وتداعيات نكبة مرفأ بيروت بعد تفجيره في 4 آب 2020، وما خلّفته الحرب الروسية على أوكرانيا وانعكاساتها العالمية على مستوى أزمة الغذاء العالمية.
وفي الوقت الذي بقي الحماس الفرنسي متقدّمًا على بقية الاستراتيجيات المعتمدة لدى بقية الاطراف، بقي الآخرون ينتظرون ما يمكن ان يقدّمه أهل الحكم في لبنان الذين عجزوا عن انتخاب الرئيس الخلف للجمهورية في ظل المعادلة السلبية التي كرّستها الجلسات المتتالية للمجلس النيابي بطريقة حالت دون استكمال بناء السلطات الدستورية بكل المواصفات التي تسمح لها بالتعاطي مع المجتمع الدولي. وعزز هذا الاعتقاد، الشلل الحكومي وتردّد المجلس النيابي في البت بمجموعة الإصلاحات المطلوبة بإلحاح، من أجل محاكاة السيناريوهات الخاصة بالمعونة الاقتصادية والمالية والنقدية التي يمكن ان يقدّمها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، اللذان لا يمكن ان يتعاطيا مع لبنان في ظلّ فقدان المراجع الدستورية التي يمكنهما التعاطي معها بالوسائل الضامنة لتلبية شروطهما الطبيعية التي تضمن بلوغ قدرة اللبنانيين على بلوغ مرحلة التعافي والإنقاذ التي رسمت الاتفاقات الاولية مع لبنان خطواتها الاولى على مختلف المستويات.
وما زاد في الطين بلّة، ما فرضته الأزمات الدولية من انكفاء لبعض الدول تجاه أزماتها الإقليمية والدولية، وخصوصًا تلك الناجمة عن خلافات واشنطن مع الصين نتيجة أزمة تايوان وكوريا الشمالية، وما ادّت اليه الحرب الروسية على أوكرانيا والمواجهة الدولية في قطاع النفط والغاز بسبب التقنين الروسي لإنتاجها تجاه مجموعة الدول التي فرضت عليها سلسلة من العقوبات المالية والسياسية والديبلوماسية، وتلك التي قرّرت من طرف واحد فرض اسعار متهاودة للغاز الروسي، وعدم القدرة على تأمين مصادر أخرى تعوّض النقص الحاصل، وتردّد منظمة «أوبك» عن اتخاذ الإجراءات الآيلة إلى خفض الأسعار الدولية تلبية لرغبة اميركية، بحجة انّ الانتاج في بعض الدول المنتجة للنفط قد بلغ الذروة، ولا يمكنها زيادته بالحجم المطلوب دوليًا. وكأنّ ذلك لم يكن كافيًا، فقد زاد التردّي في العلاقات الفرنسية ـ الايرانية من مستوى الزخم المطلوب لمواجهة مستجدات الوضع في لبنان، فلإيران حضورها القوي على الساحتين اللبنانية والاقليمية، ولا يمكن تجاوزها، بما يضمن النجاح المسبق لأي خيار يمكن ان يتخذه المجتمع الدولي لمساعدة لبنان.
وإزاء هذه المعطيات التي فرضت التريث الاقليمي في التفكير بأي خطوة تجاه لبنان، فقد أدّى تردّي الوضع الداخلي في لبنان إلى زيادة الضغوط الفرنسية بمشاركة مصرية بعد القطرية، لإحياء الاهتمام بالوضع ومنع الانهيارات الكبيرة المتوقعة على اكثر من صعيد، وخصوصًا على الوضع الأمني بعد النقدي والمعيشي، فانتعشت الاتصالات مجدّدًا وشهدت باريس أكثر من لقاء سعودي، فرنسي وقطري، أدّت إلى رفع وتيرة الحركة الفرنسية التي قادت وزيرة خارجيتها كاترين كولونا إلى السعودية ولقائها الاستثنائي مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في حضور وزيري الطاقة والخارجية، ما يكسب الاجتماع أهمية بالغة تجاه ما هو مطلوب من أجل مساعدة لبنان. وقد تزامنت الزيارة مع اخرى قام بها الموفد الشخصي للرئيس ماكرون المكلّف تنسيق المساعدات الخاصة بلبنان السيد بيار دوكان إلى مصر والاردن ولبنان بعد تعثر الخطوات الآيلة لاستجرار الغاز المصري والكهرباء الاردنية بتمويل البنك الدولي، بالتزامن مع حراك لافت للسفير السعودي في لبنان.
عند هذه الصورة الفسيفسائية، تمّ الاتفاق النهائي على موعد اللقاء الخماسي في باريس الاثنين المقبل، للبحث في أكثر من ورقة عمل فرنسية ومصرية وقطرية يمكن ان تؤدي إلى خريطة طريق جديدة للمجتمع الدولي، لمساعدة لبنان، في وقت تسرّبت معلومات مصدرها واشنطن، توحي انّ المطلوب أيضًا من هذه المجموعة الخماسية الجديدة ان تكون بديلًا من مجموعة العمل الدولية من أجل لبنان، بعد استبعاد كل من الصين وروسيا منها تحت غطاء حضّ المسؤولين اللبنانيين على القيام بالخطوات المؤدية لانتخاب رئيس للجمهورية، والبت سريعًا بالإصلاحات المطلوبة قبل انهيار الهيكل الكامل للدولة، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان والوصول إلى مرحلة يعجز فيها الداخل والخارج عن ترميم ما جرى تدميره حتى اليوم.
وفي الخلاصة الطبيعية لكل هذه المعطيات والمؤشرات، لا تخفي المراجع المعنية مخاوفها من ان تأتي النتائج المرتقبة من هذا اللقاء بأقل ما بُذل من جهد لعقده، ما لم يكن اللبنانيون جاهزين لملاقاة هذه الورشة الدولية لرسم أولى الخطوات الممكنة للخروج من مجموعة الأزمات، بعد إعادة برمجتها وتحديد الأولويات التي تسمح بتفكيكها واحدة بعد اخرى، وليثبت عندها انّ ما صُرف من جهد لتأمين انعقاد هذا المؤتمر، لم يكن في أوانه وقد يذهب سدى.