لم يخرج لقاء باريس بما يمكن أن يعوّل عليه لإعطاء لبنان جرعة دعم لحل أزماته المتراكمة، وأيّ متابعة يقوم بها سفراء الدول الخمس لا تتعدّى الإطار الشكلي في غياب أيّ اتفاق
لا تخرج متابعة سفراء الدول الخمس، أطراف لقاء باريس، عن إطار دبلوماسي محدود بالزمان والمكان. ليست المرة الأولى التي تجتمع فيها عواصم تهتمّ بالوضع اللبناني لمواكبة ما يجري فيه ومحاولة ابتداع حلول لأزماته المتكررة. والاجتماع الخماسي الذي لا يزال محور جلسات النقاش السياسي، واحد من مسار طويل، مع بعض الفوارق، في ما سبقه وما تلاه.
مع الاستعداد لصياغة اتفاق الطائف، وما بعده، شُكّلت لجنة ثلاثية لمواكبة الاتفاق في ظل حركة الموفد العربي الأخضر الإبراهيمي وجولاته على عواصم عربية وغربية لضمان الموافقة عليه والعمل على حسن تطبيقه. تدريجاً، انسحبت المتابعة العربية عن مراقبة تنفيذ الاتفاق الذي نُفّذ لاحقاً وفق الطريقة السورية. مع اتفاق الدوحة تكرر الأمر نفسه، وكُلّف الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية عمرو موسى مواكبة ترجمة الاتفاق عملانياً، وحضر أولى جلسات الحوار التي عقدت برئاسة الرئيس ميشال سليمان في قصر بعبدا، وتدريجاً صارت زيارات موسى من باب المجاملات الدبلوماسية.
تميّز ما جرى في باريس عمّا حصل في الدوحة والطائف جملة ملاحظات جوهرية في الشكل والمضمون، قد يكون أهمها أنّ اتفاقَي الطائف والدوحة كانا معقودين ومكتوبين على مستويين: الأول شامل لإنهاء الحرب وصياغة دستور متكامل، والثاني تفصيلي بالمعنى اليومي للحياة السياسية لوقف تداعيات 7 أيار وانتخاب رئيس جديد وتشكيل حكومة ووضع قانون انتخاب. لكن، في المحصلة، استند الأطراف اللبنانيون والرعاة الإقليميون والدوليون الى اتفاق واضح ونهائي، انطلقوا منه وعملوا على احتضانه وترجمته، ولو بخطى بطيئة، وأحياناً مناقضة للنص بحرفيّته.
لكن اجتماع باريس مغاير تماماً، وقد أُعطيَ أهمية أكبر من حجمه، ونظر إليه مختلف الأطراف في الداخل من زاويتين مختلفتين. وما يميّزه جذرياً أنه لا يوجد أيّ اتفاق بين القوى الإقليمية والدولية التي اجتمعت على وضع حل متكامل للأزمة لترجمتها ولو عبر لجنة متابعة، لا نصاً مكتوباً ولا رؤية متكاملة. فالعواصم الخمس لا تلتقي على نظرة واحدة لحل الأزمة وتحديد الأولويات أو مواقع الخلل وكيفية التعامل بالميزان نفسه مع معرقلي الحل. ولأن لا اتفاق أولياً أو لاحقاً، من غير المتوقع أن يكون ما ينجم عنه أكثر أهمية مما حصل في تجارب حوارية واتفاقات معقودة. وجلّ ما يحصل سيكون أقل من لجنة متابعة وأقرب الى ما يقوم به السفراء الخمسة، أي مواكبة شكلية لاجتماع شكلي، إذ إن الدول العربية المشاركة، ولا سيما السعودية، جارت الضغط الإعلامي والسياسي الذي قامت به باريس من أجل المشاركة، لا أكثر ولا أقل. فيما كانت الرياض، ولا تزال، تتعامل مع لبنان حالياً من زاوية سعودية محض لا لبنانية ولا فرنسية. وكل ما خرج من الاجتماع من إيحاءات لبنانية لا يعنيها من قريب أو بعيد. وهذا وحده كافٍ للتعامل مع نتائج باريس على أساس واقعي.
الأمر الثاني الذي ظهر جليّاً أنه على عكس تجارب سابقة، ولا سيما في مواكبة الدول المعنية المذكورة للوضع الداخلي والعلاقات مع المكوّنات اللبنانية، هناك اختلاف جذري في وضع القوى المحلية عمّا كانت عليه حالها، سواء في تجربة الطائف، وهي الأكبر والأشمل، أو في تجربة الدوحة بما سبقها من مفاعيل سياسية وأمنية، إذ تجرى عادة تحركات داخلية، يوازيها تموضع سياسي لقوى موالية ومعارضة، يليه تحرك خارجي إقليمي ودولي لمحاولة استخراج حلول قابلة للتطبيق بالحد الأدنى، وتعطى على أساسها خريطة الطريق لهذه القوى كي تسير بموجبها. حالياً يحصل العكس. فالقوى الداخلية هي التي تنتظر وتعوّل على أيّ محاولة خارجية للحل، وهي في الوقت نفسه تعيش حال تشرذم، حتى داخل الصف الواحد، عدا عن تباينها، سواء تلك التي تعدّ نفسها سيادية أو مستقلة، أو قوى 8 آذار، أو حتى التيار الوطني الحر وبعض الأصوات المتفرقة، في تحديد مكامن العقبات والحلول. كما أن القوى التي كانت عادة تتماهى مع أي تحرك غربي أو عربي تبدو اليوم مشتّتة المواقف. ولأن لا برنامج واضحاً لكل هذه القوى في مقاربة الاستحقاقات، يصبح من الصعب على الدول المشاركة في الاجتماع التعامل معها على قواعد واضحة. فالخلاف الجذري الذي جعل من المتعذّر جمع الأطراف اللبنانيين على مائدة عشاء سويسرية، لن يكون من السهل التعامل معه على أساس خريطة عمل محددة بخطوات مدروسة وعملية، ما يجعل من المستحيل، وعطفاً على الخلاف الخارجي في تقويم النظرة للبنان، أن يخلص الاجتماع الخماسي إلى أيّ نتيجة حاسمة. ما خلا حقيقة واحدة خرج منها مواكبو الاجتماع الخماسي بأن الأزمة طويلة، كما أن طريق الضغوط لإيجاد حلول متكاملة لها ستكون طويلة ومتشعبة مالياً واقتصادياً وسياسياً. وقد تكون هذه الخلاصة الوحيدة التي تلاقي شبه إجماع لتنفيذها.