تتجاذب القوى السياسية اللبنانية تكهنات متناقضة بشأن اجتماع باريس وإمكانية تمخضه عن حلول تساهم في انفراج للأزمة الرئاسية. فكل طرف من الأطراف المتصارعة على السلطة في لبنان يقرأ في كتاب استنتاجات تصب في صالحه وحده دون غيره، مع تغييب كامل لحل إنقاذي ينتشل لبنان كدولة وشعب ومؤسسات من كوابيس المحاصصة وصراع السلطة والنفوذ.
فالذي يهيمن لا يرضى إلا باستمرار هيمنته ومصادرته القرار والسيادة، والذي ينام ويستفيق على حلم الهيمنة لا يهتم إلا بقطع الطريق على المنافس. لا أحد يريد أن يفتح صفحات ما يستجد حول لبنان مع التغيير الاستراتيجي الحاصل في المنطقة بفعل الاتفاق السعودي/ الإيراني بضمانة صينية. أو أنّه يصعب التخلي عن الطريقة التشاطرية اللبنانية، لذا يسعى كل فريق من أفرقاء السلطة للاستفادة من هذا التغيير لصالحه.
لكن الأمر لا يستوي بحسابات الدكاكين اللبنانية. فبضاعة هذه الدكاكين انتهت صلاحيتها، بالنسبة إلى الدول التي لا تزال تقارب المسألة اللبنانية، وإن بقرف من أطراف المنظومة الميؤوس منهم. الأمر أبعد من حسابات الدكاكين. لكن أطراف المنظومة متمسكون بطريقتهم التشاطرية، وتحديداً بعدما وضعهم هذا الاتفاق، بشكل أو بآخر على قدم مساواة بفعل توافق من كان يحركهم ضد بعضهم البعض، لذا يحاول المتعالون على هذه المساواة المكابرة وعدم الاعتراف.
لو يسألون أنفسهم عن أبعاد إعلان إسرائيل عن قتل شخص قالت إنّه تسلل من الأراضي اللبنانية وقام بتفجير عبوة ناسفة قرب مدينة حيفا. أو أنّ هذا الإعلان مطلوب ليذكِّر المتعالي الآخرين بمقامه، وبأنّه لا يزال يحتكر قرار الحرب والسلم، وأنّ لديه الحق والقدرة على فرض من يريد من خلال ترشيح من يحمي ظهره.
بالتالي، على من نسي من الأطراف التي ارتفع صوتها برفض الفرض أن يفهم الرسالة، وأن يعرف حده. فصاحب السلاح والصواريخ لا يزال رقماً صعباً، والاتفاق لن يضعفه، على الرغم من التزامه الصمت بعد الإعلان الإسرائيلي، مع محاولات مكشوفة لتبسيط الحادث والاستخفاف به وعدم التوقف عنده، والاستعانة بالبيئة الحاضنة لتتغنى بالربيع، مع نفي إمكان ردود فعل عنيفة من الجانب الإسرائيلي، الذي لن يتجرأ ويعرض نفسه للإذلال… فالانتصارات الإلهية لا تزال مضمونة. وأي حديث عن استراتيجية دفاعية تنزع السلاح هو أضغاث أحلام لصاحبه. حتى لو كان صاحبه مرشح على هذا الأساس.
وكأنّه يريد أن يؤكد أنّ وظيفته لا تزال على حالها، فالتغييرات من فوق لا علاقة لها بأرضه وملعبه، ونفوذه لن يتقلص بمعزل عن الواقع الجديد وما يستتبعه من زوال للاصطفاف السابق، الذي كان يتطابق مع أجندة المحور الإيراني.
أو هو يتجاهل أو يتعامى عن واقع مفاده أنّ الورقة اللبنانية، لم تعد مرهونة بأذرع إيران في المنطقة، وأنّ على هذه الأذرع تغيير خطابها وسلوكها وتوجهاتها، لتنكفئ إلى حيثية جديدة، مفادها أنّها جزء من اللعبة السياسية الداخلية فقط لا غير.
أو أنّ الطموح بانتهاء دور هذه المنظومة المحمية من ذراع المحور الذي لم يعد ممانعاً… هو أضغاث أحلام. وما سينسحب على لبنان جراء الاتفاق السعودي/ الإيراني لن يحمل الفرج والخلاص. لأن الله لا يغير بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
واللبنانيون لم يغيروا ما بأنفسهم. وبعد حرب أهلية قصفت أعمارهم، وبعد «اتفاق الطائف»، وبعد «تسوية الدوحة» لا يزالون يعيدون إلى السلطة منظومة كل ما في تاريخها السياسي ينز فساداً، رائحته خبيثة. ومن ثم يتذمرون ويخضعون.
لذا لن يشكل اجتماع باريس إلا محطة لبحث مصالح المشاركين فيه وليس للبحث في إنقاذ اللبنانيين من أضغاث أحلامهم.