مع أنّ السفير الفرنسي الجديد في بيروت، هيرفيه ماغرو، يُوصَف بالدماثة والهدوء على طرف نقيض من السفيرة السلف، آن غريو، الكثيرة الانفعال والمستعجلة في ردود الفعل، إلّا أنّ ثمّة غيوماً في العلاقات اللبنانية ـ الفرنسية بدأت علاماتها تظهر على مهل وتدريجياً
من دون أن يفضي إلى أي نتائج عملية وبتمثيل كان يؤمل أن يكون أفضل وأكثر فاعلية، اِلتأم الخميس في باريس مؤتمر «العمل من أجل وقف النار» بين إسرائيل وحماس. غاب عنه لبنان بعدما كان قد غاب عن «مؤتمر القاهرة للسلام» في 21 تشرين الأول بحضور 31 دولة عربية وغربية، والأمم المتحدة والجامعة العربية. أُعطيت لتغييبه عن اجتماع القاهرة ذرائع شتى، أبرزها استبعاده بالتساوي مع سوريا وإسرائيل وإيران على أنها أطراف في النزاع الدائر مباشرة أو بالواسطة. مرت الحجة تلك وغصّ لبنان باستبعاده عمّا يُفترض أنه في صلبه.
البارحة غُيِّب مجدداً عن «مؤتمر باريس» رغم حضور ما يقرب من أقل من مئة مشارك، بينهم دول الاتحاد الأوروبي ودول مجموعة العشرين ودول مجلس التعاون الخليجي ودول الجوار العربي والجامعة العربية ودول مانحة ومنظمات أوروبية ودولية وهيئات مجتمع مدني. على غرار «مؤتمر القاهرة»، أُبعدت إسرائيل وإيران وسوريا ولبنان.
في مرحلة التحضير لـ «مؤتمر باريس»، سُئلت الديبلوماسية الفرنسية عن سبب عدم توجيه الدعوة إلى لبنان للحضور. الجواب الأول أنه سيُدعى لاحقاً. سُئلت مجدداً في ما بعد عن تأخّر توجيه الدعوة على أبواب انعقاده، كان الجواب القاطع أنه غير مدعوّ، قبل أن تُفصح عشية التئامه معلوماتٌ مستقاة من مصادر ديبلوماسية غربية أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون هو صاحب قرار الاستبعاد، وأنّ له دوراً في عدم انضمام لبنان إلى اجتماع القاهرة أيضاً. الذريعة المُعلنة المنطوية في الموقف السلبيّ الفرنسيّ هي امتناع الأفرقاء اللبنانيين النافذين عن انتخاب رئيس لجمهوريتهم، وإحجامهم في الوقت نفسه عن إدخال إصلاحات أساسية بنيوية في نظامهم الاقتصادي والنقدي رغم النصائح الدولية المتكررة بالإقدام على هاتين الخطوتين. يخلص الموقف الفرنسي إلى ضرورة معاقبة هؤلاء واستبعادهم عن أي دور أو اجتماع وحضور دوليّ.
أما الجانب الآخر غير المُعلن في الموقف السلبيّ الفرنسي تبعاً لما أبرزته المعلومات الديبلوماسية الغربية، فهو غضبُ باريس من عرقلة جهود طويلة بذلتها منذ ما قبل شغور رئاسة الجمهورية، والاستخفاف بمبادراتها حيال لبنان والتلاعب بأعصاب موفديها المتوالين. بعض الجهود تلك يعود إلى عام 2017 ودور فرنسا في انعقاد «مؤتمر سيدر» لتعويم الاقتصاد اللبناني المتخبّط مذّاك في مشكلاته، عبر الحضّ على إصلاحات التزمتها حكومة الرئيس سعد الحريري ثم تخلّت عنها، مروراً بغداة انفجار مرفأ بيروت وزيارة ماكرون لبنان مرتين في آب وأيلول 2020، وممارسته ضغوطاً على القادة اللبنانيين تحت هول الكارثة بمباشرة الإصلاحات المطلوبة. لم يكن الاستحقاق الرئاسي قد آن أوانه بعد، وفي ظنّ باريس أنّ فرصة الإنجاد لما تزل ممكنة.
ما راح يقصّه الديبلوماسيّون الفرنسيون في بيروت كما لدى إدارتهم، وخصوصاً في الكي دورسيه وفي فريق العمل في الإليزيه، أن لبنان غدا حينذاك في قلب أجندة ماكرون، إذ ذهب وقابل مسؤولين أجانب وعرباً، حاضّاً إياهم على الالتفات إلى المشكلات التي يعجز اللبنانيون عن حلّها.
تضيف الرواية الفرنسية المبرّرة للامتعاض، أنّ الرئيس ناط بثلاثة من المسؤولين المؤثّرين في إدارته الاهتمام بوضع هذا البلد، وأوفدهم تباعاً مرات عدة إلى بيروت للعمل على إيجاد سبل تسهم في إيجاد حلول. بدأت قبل الشغور ثم تضاعفت بعده إلى خريف السنة الحالية: أتى مستشار الرئيس باتريك دوريل إلى بيروت مرتين على الأقل بين تشرين الثاني 2020 وتموز 2021، ومنسّق الدعم الدولي للبنان المنبثق من «مؤتمر سيدر»، بيار دوكان، خمس مرات على الأقل بين كانون الثاني 2021 وكانون الثاني 2023، وجان ايف لودريان كوزير للخارجية مرتين في تموز 2020 قبل انفجار مرفأ بيروت وفي أيار 2021، وبعدذاك كموفد خاصّ للرئيس بُعيد تعيينه في 8 حزيران 2023 ثلاث مرات في حزيران وتموز وأيلول من العام نفسه.
باريس أخرجت نفسها من لبنان أم أُخرجت منه؟
في كلٍّ من الرحلات تلك للشخصيات الرسمية الفرنسية الزائرة الثلاث، بصفتها موفدةً من الرئيس الفرنسي، عادت خالية الوفاض سوى من الوعود ممن فقدت الإدارة الفرنسية وفريق العمل المعني بلبنان ثقتهما بهم من الزعماء والسياسيين اللبنانيين المتناحرين. أكبّت باريس، والكلام للرواية الفرنسية أيضاً، على العمل من ضمن الخماسية الدولية مع الولايات المتحدة والسعودية ومصر وقطر في ثلاثة اجتماعات في سنة واحدة عام 2023، أولها في العاصمة الفرنسية في شباط، ثم في الدوحة في تموز، ففي نيويورك في أيلول، دونما أن تحرز تقدّماً في حضّها الأفرقاء اللبنانيين على انتخاب رئيس لهم. تقدّم انتخاب الرئيس أولويات عمل الخماسية الدولية على بند الإصلاح الضروري بغية انتظام مؤسسات الدولة.
تُختم الرواية الفرنسية بالعثور على وسيلة لمعاقبة الأفرقاء اللبنانيين على إخلالهم بوعودهم وعدم استجابتهم للنصائح الفرنسية، كي تقول إنهم وضعوا بلدهم في مهبّ الريح، وأضحى غير ذي جدوى في أي منصّة أو اجتماع إقليمي ودولي، قبل أن تنتهي إلى تقاطع مع المعلومات المستقاة من مصادر ديبلوماسية غربية أنّ باريس أدارت ظهرها للبنان. أولى الخطوات، الانضمام إلى المشاركين في عزل الدولة اللبنانية. اجتماع باريس لوقف النار في غزة وتقديم المساعدات الإنسانية إلى فلسطينيي القطاع، أعطى الإشارة السلبية الأولى، بالاستبعاد، إلى معاقبة لبنان.
ما يُضاف إلى هذه الخلاصة عند رواة دوافع الاقتصاص، أمران: أولهما وهو الأهم، الانزلاق التدريجيّ للبنان عبر حزب الله ـ وإن إلى الآن تحت ضبط قواعد الاشتباك الموشكة على التخلخل ـ في الحرب الدائرة بين إسرائيل وحماس. ثانيهما خواؤه من أي دور يسعه الاضطلاع به في اجتماع باريس، بلا رئيس للدولة وحكومة منقسمة على نفسها ومؤسسات وإدارات متهالكة. لا يملك أن يؤثّر في وقف النار، فيما هو شريك في ما يحدث رغم النصائح الدولية بتهدئة حدوده الدولية مع إسرائيل، ولا يملك بالتأكيد تقديم مساعدات هو أحوج إليها.
أمّا ما لا يُقصّ في الرواية تلك، فإقرار فرنسا بفشل دورها في المساعدة على انتخاب رئيس للبنان راهنت عليه ولعبت في أثناء سنة منصرمة على شغور المنصب أدواراً مضطربة، متفاوتة التأثير وأحياناً متناقضة: في اجتماع الخماسية الدولية في باريس، وافقت بلا بيان نهائيّ على القاسم المشترك بين الدول الأربع الأخرى، وهو الاكتفاء بالطلب من اللبنانيين انتخاب رئيس لهم. في الاجتماع التالي في الدوحة، وافقت على بيان مواصفات الرئيس. بينهما خرجت باقتراح صفقة تبدأ بانتخاب النائب السابق سليمان فرنجيه رئيساً للجمهورية وتنتهي بتعيين السفير نواف سلام رئيساً للحكومة، فسقط في بيروت وداخل الخماسية الدولية لتعارضه مع المتّفق عليه بين بلدانها، وهو أن لا مرشَّح لها. أتى بيان الدوحة كي يتجاوز الصفقة تلك ويعطبَها نهائياً. في الاجتماع الثالث في نيويورك بالكاد نصف ساعة تكرّس الانقسام والتنافر، بالتزامن مع دوريْن في بيروت، كان محسوباً أنه منسّق بين السفيرتين الأميركية دورثي شيا والفرنسية آن غريو، إذ بالثانية تنفرد بآراء واقتراحات غير متفاهم عليها، ما أوجد سوء تفاهم بين السيّدتين. بدوره، لودريان في آخر زيارة له كان ينتظر أجوبة عن أسئلة يعرف أنّ أحداً لن يجيبه عنها في ظل الانقسام الحادّ على انتخاب الرئيس.
في مرات شتى قالت باريس ـ هذا ما لمّح إليه اجتماع الخماسية الدولية في الدوحة ـ إنها ستعاقب المتسبّبين في عرقلة انتخاب الرئيس. في نهاية المطاف، انتهت إلى تسليمها بفشل دورها في لبنان، وأقرب ما تكون إلى إخراج نفسها من المعضلة اللبنانية. بعض المطّلعين على الموقف الفرنسي يتحدّثون عن أكثر من خيبة، يقولون إن مرارتها عميقة، إلى أن وصلت أخيراً إلى خيار العقاب.