من المبكر الحكم على نتائج لقاءات باريس التي جمعت الرئيس ايمانويل ماكرون برئيس الحكومة نجيب ميقاتي وقائد الجيش العماد جوزف عون، والاتصال برئيس مجلس النواب نبيه بري. ذلك انّ الملفات التي طُرحت ما زالت تخضع لنقاش مستفيض، وتحتاج الى تقاطع ليس بين باريس وواشنطن فحسب، إنما هناك قوى أخرى عليها ان تقول كلمتها، خصوصاً في الملفين الأمني والرئاسي، لترابطهما ومعهما ملف النازحين السوريين. وعليه ما هو الجديد الذي تحقق؟
حفلت عطلة نهاية الأسبوع الماضي بالحديث الإيجابي والسيناريوهات التي تناولت محادثات الساعات الثلاث في قصر الإليزيه وما رافقها من اتصالات كان أبرزها الإتصال بالرئيس نبيه بري. وتعددت التقارير التي تحدثت عن هموم اللبنانيين المطروحة على الطاولة الفرنسية، مكتفية بتعدادها وحصرها بالملفات الأمنية الخاصة بالحرب في الجنوب والاستحقاق الدستوري متمثلاً بانتخاب رئيس للجمهورية وملف النازحين السوريين، وبقيت جميعها من دون البت بأي منها. ذلك انّ ما حصل لا يعدو كونه بحثاً متقدّماً في ما هو مطروح من افكار وخطوات متدرجة لا بدّ من إعادة برمجتها بطريقة تقلّل ما فيها من تناقضات وتكبّر حجم النقاط المشتركة التي يمكن البناء عليها في المستقبل.
وقبل الدخول في تفاصيل بعض ما هو مطروح من أفكار ومخارج وحلول، تعتقد مصادر واسعة الاطلاع انّ معظم التسريبات التي تردّدت في الساعات القليلة الماضية ما زالت قاصرة عن تقديم صورة واضحة لمستقبل الوضع على مختلف المستويات. ذلك انّ البعض منها بُني على كثير من النيات والأمنيات الصادقة التي تأمل فرجاً قريباً. ولكن ما يجري على الأرض لا يوحي بإمكان بلوغها قريباً، إن لم تكن قد جعلت منها مجرد افكار في انتظار ان يجول بها الوسطاء على مختلف الأطراف المهتمين بالوضع في لبنان من ضمن الاهتمامات الدولية والإقليمية التي أرخت بثقلها على الساحة اللبنانية، ولا سيما منها ما يتعلق بالوضع في غزة والبحث الجاري عن «اليوم التالي» تحديداً، وما يستلزمه من تفاهمات سياسية تعيد برمجة الخطوات العسكرية التي ما زالت تتقدّم كل المساعي السياسية والديبلوماسية على حدّتها، لتكون في خدمة ما هو قائم من تجاذبات تجاه ما هو مطروح من صفقات داخلية وإقليمية ودولية ابتعدت عن أساس الأزمة بعدما تشعبت وتناسلت بين الداخل والخارج.
وبناءً على ما تقدّم، تجزم المصادر المطلعة في انّ الأجواء الإيجابية التي انتهت إليها المشاورات الجارية غير محسومة حتى الآن. فالعلاقات الدولية تحول دون رسم خريطة الطريق المستعجلة إلى المخارج والحلول، ليس لسبب محدّد إنما ارتباطاً بحجم القوى التي باتت على الخط وحجم المصالح المختلفة والمتناقضة التي خلطت الأوراق مجدداً. فليس في حسابات من كان يبحث عن التفاصيل في اي ملف داخلي سواءً كان سياسياً او امنياً او دستورياً، أنّه سيضطر الى إعادة حساباته على مستويات عدة، وسط مخاوف من عودة البعض منها إلى نقطة الصفر.
واياً كانت المقاربات الجارية، فإنّ الحاجة باتت ماسّة لإعادة النظر في كثير مما كان يعتقده البعض بأنّه ممكناً. فالحديث عن آلية الدعوة الى التشاور او الحوار الذي يفضي الى ولوج الاستحقاق الدستوري بانتخاب الرئيس، بلغت نقطة الصفر لمجرد انتظار حرب غزة لينظر «حزب الله» في ما هو مطروح. وهو ما انتهت إليه القراءة النهائية التي أجرتها اللجنة الخماسية في شأن لبنان، والتي دعتها الى التريث في ترتيب لقاء تقييم نهائي مع رئيس مجلس النواب نبيه بري، وكتلة «الاعتدال الوطني» التي حاول أعضاؤها ترجمة التوجّهات التي بنتها هذه «الخماسية» في الفترة الاخيرة، قبل ان تجول على القيادات السياسية والنيابية والحزبية المتحكمة بالاستحقاق الرئاسي.
وهي عملية لن يطول انتظار النتائج المترتبة عليها – باعتراف المصادر عينها – التي تحدثت عن حالة من الغموض التي تغلّف بعض الاقتراحات العملية، وقد تنتهي قريباً بعدما تظهرت صعوبة النفاذ بها قبل التوصل الى وقف لإطلاق النار في غزة. وقد ثبت بالوجه الشرعي أنّها صعبة إن لم تكن مستحيلة، بعدما تمّ الربط بين أي خطوة داخلية ونتائج المواجهة الشرسة التي أعقبت التدخّل الإيراني المباشر في الأزمة والردّ الإسرائيلي الأخيرعليه بطريقة أوحت بأنّ مفاتيح الحل باتت في مكان آخر بعيد من المنطقة.
وإزاء ما برز من تعقيدات نتيجة احتفاظ القوى الداخلية بمواقفها السابقة من دون اي تعديل او تقدّم، تتجّه الأنظار الى ما يمكن ان تحققه المبادرات الدولية، ولا سيما منها تلك الجارية بين طهران وواشنطن عبر قناتي مسقط العمانية والسفارة السويسرية في طهران، ومعها قنوات اخرى اعتُمدت في الايام القليلة الماضية ما بين باريس والقاهرة والدوحة، التي زادت من الغموض الذي يلف المواقف الحقيقية للقوى الفاعلة، ولا سيما منها تلك التي لجأت الى المسالك العسكرية بدلاً من الديبلوماسية. فالتحضيرات المتسارعة للاجتياح الاسرائيلي لمحافظة رفح هي من الخطوات التي تنبئ بالأسوأ، وخصوصاً بعد تنامي الخلافات الداخلية في اسرائيل ما بين أركان حكومة الحرب والمعارضة التي تجلّت باستقالة رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الاسرائيلية تعبيراً عن مسؤوليته تجاه الوهن الذي أصاب أجهزة الاستشعار المسبق للمخاطر في مواجهة أحداث «طوفان الأقصى» وما تلاها من عمليات في قطاع غزة دون القدرة على حسم الموقف كما أرادته إسرائيل، وهو قرار استغلته المعارضة لدعوة رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ليحذو حذوه.
وإن لم تكن هذه المستجدات في الداخل الاسرائيلي كافية للإشارة الى ما يمكن ان تتخذه العمليات العسكرية من منحى توسعي، فقد جاءت العمليات العسكرية الكثيفة، النوعية منها والتقليدية، التي تشهدها الجبهة الجنوبية منذ «الضربة الإيرانية» لترفع من منسوب القلق إلى الدرجة القصوى. وخصوصاً انّها عبّرت عن النية بالتصعيد، بعدما ادخل «حزب الله» انواعاً جديدة من الاسلحة التي استجرّت رفعاً للتهديدات الاسرائيلية تجاه لبنان، والحديث عن قرب توصلها الى ما تعتبره حسماً للوضع في الشمال، في محاولة متجددة لاستيعاب موجات الغضب الداخلية.
وامام هذه المعطيات، عبّرت المصادر المطلعة عن اعتقادها بأنّ الحديث عن تفاصيل الأزمات اللبنانية الداخلية بات من الصغائر التي لا يمكن البناء عليها، لا للفصل بين ما يجري في المنطقة ولبنان، ولا على مستوى البحث في مصير النازحين السوريين، في انتظار الآليات التي يمكن ان يلجأ اليها الاتحاد الأوروبي الذي يستعد لبحث جاد مع المسؤولين اللبنانيين في ما لديهم من اقتراحات لن تؤدي الى إعادة النازحين إلى بلادهم بمقدار ما تشكّل بداية حل لمعاناة اللبنانيين من هذا النزوح والتخفيف من تردّداته بحزمة من المساعدات المالية والعسكرية تحت شعار مواجهة «الهجرة غير الشرعية»، في توجّه لتجاوز ازمة النزوح التي زادت من اسبابها السلبية الأوضاع المزرية في سوريا، وشروط الرئيس بشار الأسد التي تفوقت على شروط ما يسمّى «المجتمع الدولي».