يطمح البعض إلى أن تكون مشاركة واشنطن في لقاء باريس الخماسي، يوم الإثنين المقبل، بمثابة ضوء أخضر لإحداث خرق في الجدار اللبناني المسدود. لكن آخرين يُبدون تشاؤماً، ويسألون: ما الجدوى من عقد هذا اللقاء ما دام سينتهي إلى لا شيء؟
المرة الأخيرة التي تدخَّل فيها الأميركيون بشكل معمَّق في الوضع اللبناني كانت في تشرين الأول الفائت، عندما بذلت واشنطن أقصى جهدها لإنجاح اتفاق الترسيم البحري بين لبنان وإسرائيل، حيث كان الوسيط عاموس هاكشتاين يتحرك مكوكياً على المسؤولين في لبنان لإقناعهم بالتسوية.
فما أن انتهت تلك العملية وتكلّلت بالنجاح، حتى سحب الأميركيون أيديهم من الملف اللبناني وعادوا إلى التموضع السابق، أي الاكتفاء برصد الوضع اللبناني عن بُعد وإدارة الأزمة بواسطة «الريموت كونترول».
وخلاصة ما يريده الأميركيون اليوم هي بقاء مشكلات اللبنانيين ضمن الضوابط، فلا تشكّل خطراً على الآخرين. أي ألّا يتدهور الوضع جنوباً فيشكّل تهديداً لاستقرار «اليونيفيل» وأمن إسرائيل، ولا يتدهور الوضع الأمني في الداخل، بحيث تفقد الأجهزة العسكرية والأمنية قدرتها ودورها.
عشية 17 تشرين الأول 2019، كانت المؤسسات كلها تقريباً في وضعية الانهيار الفعلي، وكان البلد واقفاً على ركيزتين قويتين فقط هما: مصرف لبنان ومعه القطاع المصرفي، والجيش والقوى الأمنية.
وما يجري منذ ذلك الحين هو انهيار إحدى هاتين الركيزتين، المصرف المركزي والقطاع المصرفي. ولذلك، تبقى الدولة مرتكزة إلى الجيش والقوى الأمنية فقط. فإذا سقطت، زالت تماماً كل الضمانات لبقاء الدولة، بهيكلها الأساسي على الأقل، وتعرَّض البلد للانهيار التام.
لذلك، يحرص الأميركيون على بقاء الجيش والقوى الأمنية في الحدّ الأدنى من القوة، أياً تكن الاعتبارات. والشذرات البسيطة من الدعم المالي النقدي الذي تمّ الاتفاق على تقديمه شهرياً لعناصر الجيش وعناصر قوى الأمن، هو الإشارة إلى أنّ هؤلاء ليسوا متروكين، وأنّ المطلوب منع انفراط المؤسسة العسكرية والأمنية.
إذاً، هذه هي حدود الاهتمام الأميركي بلبنان حالياً. وأما التسويات السياسية وتنفيس الاحتقان الاقتصادي والاجتماعي فهي شأن آخر بالنسبة إليهم، وهم لا يرغبون في استعجالها لأسباب مختلفة.
يعتبر الأميركيون أنّ لبنان لن يجد طريقه إلى الحل الحقيقي في ظلّ منظومة السياسيين التي تتحكّم به اليوم، والتي تحظى بدعم إيران. ويقولون إنّهم لطالما حاولوا تقديم الدعم للشعب اللبناني للخروج من هذه السيطرة. لكن شيئاً لم يتغيّر.
فقد فشل التغيير بالانتفاضة في الشارع، كما فشل التغيير عن طريق الانتخابات النيابية. فإذا كان اللبنانيون هم الذين اختاروا هذا المسار لأنفسهم، فقد أصبحت مسؤوليتهم أن يوجدوا الحلول لأزماتهم. وفي عبارة أخرى، هناك في واشنطن من ينظر إلى الشعب اللبناني نفسه بعين اللوم، لأنّه راضٍ بالمصير الذي وصل إليه، وهو لا ينتفض على الجوع والانهيار الكامل للمؤسسات.
ولذلك، أطفأ الأميركيون محرّكاتهم في لبنان، منذ أن تمّ إنجاز اتفاق الترسيم، واكتفوا بتأمين المصالح الاستراتيجية الإقليمية لحليفهم إسرائيل، فيما لم يحصل لبنان على الفائدة المنشودة من الاتفاق، وليس مضموناً أنّه سيحصل عليها لاحقاً.
والدليل هو أنّ واشنطن لم تمنح لبنان الضوء الأخضر للحصول على الكهرباء من الأردن والغاز من مصر، فيما شركة «توتال» التي كان يتردّد أنّها ستبدأ التنقيب عن الغاز في «البلوك 9»، خلال أسابيع من توقيع الاتفاق، لا تضع لبنان في نطاق برنامجها للعام 2023. وهي لن تفعل ذلك إلاّ بضوء أخضر أميركي، لا أحد يضمن متى سيأتي.
يريد الأميركيون الإبقاء على «صورة» الدولة في لبنان، ولو كانت مؤسساتها ممزقة أو مشلولة. ولا بأس بانتخاب رئيس للجمهورية إذا كان ذلك ممكناً حالياً، ولكن، من دون تقديم أثمان لأحد. وإلّا، فليتدبر اللبنانيون شؤونهم، وليستمر الفراغ الرئاسي ما دامت الدولة قائمة ولو صوَرياً، وما دامت الحكومة المستقيلة تؤدي دورها في الحدّ الأدنى.
هذه النظرة تلتقي جزئياً مع النظرة السعودية التي تتعاطى مع لبنان أيضاً بمقدار من العتب، بسبب انجراف الدولة والقوى السياسية في المحور الإيراني. ويبدو الفرنسيون وحدهم راغبين في إحداث خرق في الجدار المسدود، خوفاً من زوال لبنان الحالي تحت ضغط التجاذبات الدولية والإقليمية.
ويتردّد أنّ بعض القوى اللبنانية، وبعض المرشحين اللبنانيين للرئاسة، يحاولون جسّ نبض واشنطن، لعلّهم يحظون بدعمها في أي تسوية محتملة، لكن أركان الإدارة الأميركية لا يبدون اهتماماً كبيراً بالملف، إذ يعرفون أنّ لحظة الانتخابات لم تنضج بعد، وأنّ الأمر يحتاج إلى حوار مع إيران في الدرجة الأولى، والوقت لم يحن لذلك. ومن هذا المنطلق، لا رهان ممكناً على تسوية تخرج من لقاء باريس، لأنّ أحداً ليس مستعداً لإهدار الجهد والوقت مجاناً.