لا تبدو الصّورة في العمق خطيرة ومستعصية كتلك التي يَجهد الاعلام الأوروبي والعالمي في تصويرها لجهة تدفّق النازحين السوريّين الى أوروبا.
طبعاً، هذا يضاعف القلق حيال الحدود المشرّعة، خصوصاً البحرية منها التي تُعاني منها الدول الأوروبية منذ عشرات السنين نتيجة التسلل المستمر لشعوب البلاد العربية في شمال افريقيا في اتجاه السواحل الأوروبية.
هي مشكلة مطروحة على بساط البحث منذ عقود، لكنّ تصوير تدفّق بضع مئات الألوف من السوريين الى القارة الاوروبية بأنّه خطر يُهدّد المجتمعات الاوروبية ووجودها مستقبلاً هو مسألة مبالَغ فيها من دون أدنى شك.
لا بل على العكس، فإنّ سفارات هذه الدول وخصوصاً تلك الموجودة في لبنان تمنح يومياً موافقتها على مئات طلبات الهجرة المقدَمة من عائلات سورية.
وعلى سبيل المثال باشرت السلطات الألمانية والفرنسية والإيطالية اضافة الى غيرها فرز المجموعات السورية النازحة وتبيان المجالات التي يمكن أن يعمل في إطارها هؤلاء والتي تتوزّع ما بين الصناعة والزراعة والاعمال الحرفية.
فالقارة الاوروبية التي تعاني اقتصادياً بسبب الاجتياح الصيني للأسواق العالمية نتيجة تدنّي الاسعار بسبب اليد العاملة الرخيصة، تعرف جيداً أنها تحتاج ليد عاملة رخيصة لا يمكن تأمينها إلّا من الشعوب التي تعيش ضمن ظروف معيشية فقيرة، وسوريا هي إحدى هذه البلدان. وهي سياسة متّبعة على الدوام ليس فقط في أوروبا إنّما أيضاً في الولايات المتحدة الاميركية، حيث «تطنّش» السلطات الاميركية على الهجرة غير الشرعية والمتأتّية خصوصاً من أميركا اللاتينية.
لكنّ ذلك لا يعفي تدارك مسائل عدة منها ضبط الاعداد وإخضاع هؤلاء للفحص الامني، وربما الرقابة اللاحقة وطريقة دمجهم في المجتمعات الاوروبية، اضافة الى حسن توزيعهم وإعفاء بعض الدول ذات الاقتصاد الضعيف من هذا الحمل.
في اختصار، أوروبا ومعها الإعلام العالمي سلّط الضوء على هذا الملف من جهة لتعبئة المجتمعات الأوروبية ما يفتح الطريق أمام منح الحكومات الضوء الاخضر للانخراط العسكري في الصراع السوري والدفع في اتجاه إنجاز الحلول والتسويات، ومن جهة أخرى لحجز مقعد لها في الورشة السياسية الجاري إعدادها للشرق الاوسط انطلاقاً من سوريا وتحت اشراف الولايات المتحدة الأميركية بطبيعة الحال.
صحيحٌ أنّ تركيا المستاءة من الدخول العسكري الروسي في شمال سوريا حاولت الضغط على أوروبا من خلال فتح المجالات لتدفّق النازحين السوريين، إلّا أنّ هذه الورقة استغلّها الغرب لوضع الملف السوري على طاولة التسويات.
في باريس، هناك مَن يستعيد اليوم مرحلة ولاية الرئيس جاك شيراك والغزو الاميركي للعراق. يومها عارضت فرنسا الغزو الاميركي بسبب مصالحها الكثيرة والمهدَّدة في العراق، لكنّها في النتيجة حصدت الخيبة وانتظرت حتى العام 2004 حين قدّم شيراك الى الرئيس الاميركي جورج بوش مشروع إخراج سوريا من لبنان كصفعة قوية للرئيس بشار الأسد نتيجة مساعدته المجموعات التي كانت تقاتل الجيش الاميركي. يومها نالت باريس دعم واشنطن الكامل ولكنها أخذت دوراً كبيراً على الارض ما ضمن لها تجديد موقعها الاساسي في لبنان.
اليوم تجد باريس أنها خسرت السوق العراقي الى غير رجعة، في وقتٍ يبدو فيه حضورها متراجعاً الى درجة كبيرة في سوريا نتيجة موقفها الحاد ضدّ الاسد ومتواضعاً في لبنان. في الحسابات الفرنسية أنّ فتحَ أبواب التفاوض يحتاج الى قرار اميركي لحضّ السعودية على إعادة فتح الأبواب المغلَقة بينها وبين ايران.
وتُدرك باريس أيضاً أنّ الاولوية السعودية في هذه المرحلة هي للوضع اليمني حيث مصالحها الحيوية مهدّدة مباشرة. لكنّ الادارة الفرنسية تعتقد أنّ الحسم في اليمن طويل وأنّ التفاهمات التي تنشدها السعودية بعد إنجاز انتصارات كبيرة على الارض لا تبدو ممكنة حالياً، ما يعني أنّ اليمن سيشهد حرباً طويلة حاذَر كثيرون من التورط فيها مثل مصر، وهو ما يجعل الحسابات بفتح ملفَّي سوريا ولبنان بعد اليمن مسألة غير واقعية، فكان المدخل من خلال أزمة النزوح و«التهديد» الذي يطاول «وجود» المجتمعات الأوروبية، ولو لم تكن أزمة النزوح لكانت مشكلة زوال الأقليات من الشرق الاوسط هي المدخل لذلك مع افتعال مشكلة ما.
اليوم يحصل تنسيق ما بين واشنطن وباريس مشابه لما حصل عام 2004 مع تسجيل دخول روسي عريض بالتفاهم مع واشنطن. وفي ملاحظة سريعة فإنّ اوروبا تحظى بعقود نفطية كثيرة في ايران وفي المقابل لم تنَل الشركات الروسية عقداً نفطياً واحداً. ألا يؤشّر ذلك لشيء؟
الواضح أنّ روسيا التي نصبت صواريخ أرض – جو في الشمال السوري (وهذا لا علاقة له بـ»داعش» بل بتركيا ودعوتها الدائمة إلى إنشاء منطقة عازلة) تعمل على احتضان الاسد بلطف من خصره لأخذه الى طاولة المفاوضات. وتبدو باريس واثقة بأنّ الشروع في التفاهمات الاولى في الملف السوري سيفتح الطريق امام تسوية في لبنان سريعة.
ومن المفترض وضع زيارة رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون الى لبنان في هذا الاتجاه، وكذلك زيارة الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند التي لم تُحسم بعد لناحية توقيتها في ظلّ كلام عن اقتناع هولاند بضرورة حصولها بعد لقائه الرئيس الايراني حسن روحاني في باريس.
وقد تكون باريس تريد تأخير الزيارة قليلاً حتى تنتهي معارك الزبداني والتي أصبحت على قاب قوسين من ذلك بدليل الهجمات العنيفة لـ»جبهة النصرة» على الفوعة وكفريا.
والمعلوم أنّ جرود عرسال ستشهد بعد ذلك معارك سريعة لإنهاء وجود المجموعات المتطرّفة وهو ما دعا اليه صراحة كاميرون خلال زيارته البقاع.
وبذلك تكون السيطرة الميدانية قد اكتملت لصالح النظام في الحزام الملاصق للحدود اللبنانية، وجرى القضاء على التنظيمات المتطرّفة في تلك المنطقة ومناطق البقاع الشمالية، ما يسمح بفتح ملفات التفاوض وفق التوازنات الميدانية.
وقد يكون في الحسابات الفرنسية أيضاً إنضاج الظروف اللبنانية الداخلية على وقع الحراك المدني الطلوب منه أن يستمرّ على الارض لإنهاك الجميع ودفعهم لتدوير الزوايا الحادة، إن كان على مستوى الاستحقاق الرئاسي أو المشكلات والملفات الواجب معالجتها لما بعد ذلك.