على الرغم من خيبات الامل التي تلقتها باريس، على مدى سنتين ونصف السنة، منذ الاهتمام الفرنسي البارز بلبنان، على أثر انفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020، وإرسالها العديد من كبار المسؤولين الفرنسيين الى لبنان، وفي مقدمهم الرئيس ايمانويل ماكرون ووزير خارجيته جان ايف لو دريان، مع موفدين ابرزهم مُنسّق المساعدات الدولية من أجل لبنان السفير بيار دوكان، المهتم بملف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، المرتبطة بالاصلاحات والمساعدات الإنسانية والمالية، لكن كل زياراتهم لم تصل الى نتيجة، بسبب الخلافات السياسية السائدة بين اهل الحكم في لبنان، والتي كانت تقف في مرصاد كل محاولة، والنتيجة صفر تقدّم، فلا اصلاحات ويقابل ذلك لا مساعدات، وانطلاقاً من هنا برزت تنبيهات عديدة من قبل المسؤولين الفرنسيين حول ضرورة تنفيذ الاصلاحات والشروط للاستفادة من المساعدات، لكن لا حياة لمن تنادي، لا بل وصلت هذه التنبيهات الى اللوم والكلام القاسي، فيما كانت الفرص التي اعطاها الرئيس الفرنسي تتوالى الى المسؤولين اللبنانيين للاسراع في إنقاذ بلدهم.
بدأت فرص المساعدة في الاول من ايلول 2020 مع الزيارة الثانية لماكرون الى لبنان، وتمديد المهلة على امل ان يستفيق المسؤلوون اللبنانيون من سباتهم العميق، وترافق ذلك مع لقاءات عقدها معهم، تخللها كلام حوى الوضوح والصراحة، من دون ان يساير احداً، كما ان حذّرهم من انها المهلة الاخيرة للإنقاذ، قبل ضياع لبنان نهائياً، طارحاً حينها مبادرة فرنسية للانقاذ رحّب بها الجميع صورياً، فيما الواقع اكد انّ شيئاً من ذلك لم يُحّل.
الرئيس ماكرون لم يستسلم، بل تابع البحث في ما يمكن إصلاحه في ملف التشكيلة الحكومية حينها، وبالتأكيد بإشارة اميركية، الى ان ” نفض” يده بعد طول نفس في ظل تقاذف الاتهامات والمسؤولية بالفشل، وتبع ذلك زيارات قام بها وزير الخارجية لو دريان للمرة الثانية، فكان الاقسى بين المسؤولين الفرنسيّين من ناحية اللوم الذي وجهّه في إتجاه اهل السلطة في لبنان، وصولاً الى الزيارات المتكررة التي قام بها السفير دوكان ايضاً ولم تسفر عن أي نتيجة ايجابية، فتناول البحث من جديد ملف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، الذي راوح مكانه ضمن مقولة باتت درساً حفظها المسؤولون الدوليون، لكن لم يحفظها المسؤولون اللبنانيون، وهي” لا مساعدات دولية من دون إصلاحات”.
لكن وقبل ايام قليلة، وعلى الرغم من كل هذا التعب الباريسي على مدى سنتين، عادت الحماسة الفرنسية تجاه لبنان، لكن من باب الاستحقاق الرئاسي عبر وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا، التي زارت بيروت ليوم واحد، حاملة رسالة اطلقتها خلال لقاءاتها كبار المسؤولين، بدءاً برئيس الجمهورية ميشال عون، ورئيس المجلس النيابي نبيه بري، ورئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي، ثم عقدت قبل مغادرتها بيروت يوم الجمعة الماضي مؤتمراً صحافياً في مطار رفيق الحريري الدولي، دعت خلاله الى ضرورة انتخاب رئيس جديد للجمهورية، لانّ لبنان لا يحتمل خطر الفراغ في السلطة، فأتى كلام كولونا في محله وباللهجة الرسمية وقبل ايام من انتهاء المهلة الدستورية، ضمن عبارة واحدة “لا لرئيس إستفزازي ونقطة على السطر”، أي رئيس مقبول اقليمياً ودولياً، قادر على التفاوض مع اللاعبين السياسيين، أي المطلوب من الرئيس المرتقب ان يكون بعيداً عن التحدّي، غير حزبي بل مستقلا، مقرّبا عربياً وغربياً، بما معناه انّ الاسماء التي يتم التداول بها او تلك المرشحة، ابعدتها باريس عن الدروب المؤدية الى قصر بعبدا، وابقتها في مكانها ضمن جلسات رئاسية صورية ستكثر من الآن فصاعداً، لكن من دون نتيجة.
وإنطلاقاً من هنا تكون باريس قد اوصلت رسالتها الرئاسية عبر كولونا، وكادت ان تعلن إسم الرئيس لكنها إكتفت بتعداد صفاته، لكن اسمه اصبح معروفاً، لتعلن من خلال ذلك وبالفم الملآن انما بطريقة غير مباشرة “نعم كبيرة لوصول قائد الجيش العماد جوزاف عون” من دون ان تسميه، مع الامل ان تكون الرسالة قد وصلت الى المسؤولين اللبنانيين، المطلوب منهم تخطي كل الحواجز التي تقف عائقاً امام التوافق، لتوحيد كلمتهم في ما يخص الرئيس المرتقب وعدم إضاعة الوقت، وبالتالي إبعاد فخامة الفراغ عن الساحة الرئاسية، وفتح الدروب امام مَن يستحق هذا المنصب…