IMLebanon

باريس سهرت على معركة جونية

على عكس الانطباع السائد بأنّ لبنان منسيٌّ وملفه مُهمل وموضوع على الرف حتى إشعار إقليمي آخر، فإنّ الأحداث والتطوّرات في الأسابيع الأخيرة أظهرت وجود بعض المحاولات لتحريك المياه الراكدة لبنانياً، ولو أنها لا ترتقي بالطبع للاهتمام المعطى للورشة السورية والنزاع العنيف والمعقّد الذي يسود ساحتها.

صحيحٌ أنّ الادارة الاميركية تضع كلّ ثقلها وتصرّ على انجاز اتفاق حول اسس التسوية السلمية قبل رحيل الرئيس باراك أوباما عن البيت الابيض ما يعني اصرار واشنطن على وضع قطار التسوية على سكة الحلّ خلال الصيف المقبل حداً اقصى، إلّا أنّ التعقيدات الهائلة التي تختزنها الحرب الدائرة تُظهر وكأنّ الملف ما يزال في حاجة الى ضغوط اضافية لإنضاج الظروف المطلوبة.

لذلك، وتحديداً إعتذر وزيرا خارجية الولايات المتحدة الاميركية جون كيري وروسيا سيرغي لافروف والامين العام للامم المتحدة بان كي مون عن حضور المؤتمر الدولي حول سوريا الذي كان مقرّراً نهاية الشهر الجاري بذريعة مستجداتٍ طرأت على جدول مواعيدهم مكتفين بإيفاد مندوبين عنهم الى هذا المؤتمر.

وإزاءَ ذلك كان لا بدّ لباريس من تأجيل موعد المؤتمر بعدما لمست في وضوح أنّ الغياب الاميركي ـ الروسي ـ الاممي يعني ضمناً عدمَ جهوز الحلول، وأنّ المؤتمر الذي كان يعوّل على نتائجه سيكون فاشلاً.

ومع إعلان التأجيل الى الصيف المقبل ظهر استنتاجٌ مفاده أنّ مرحلة قاسية لا بدّ من عبورها على أن تؤدّي نتائج الميدان الى إنضاج ظروف التسوية لا ضربها.

ولفت في هذا الإطار موقفان أميركيان مهمّان:

ـ الأول وهو يتعلق بكلام كيري، وهو اشبه بالتهديد، حين قال إنّ هنالك فعلاً «خطة ب» في سوريا بما معناه أنّ الخطوط العريضة للتسوية والتي تتضمن حصة وافية للنظام في التركيبة المقبلة معرضة للخطر بعد قلب موازين القوى ميدانياً.

ـ الثاني، يتعلق بقرار الكونغرس حول السعودية وأحداث 11 أيلول والذي رفضه البيت الابيض ومعناه أنّ الفريق المقبل الى «البيت الأبيض» سيكون متشدّداً تجاه إيران ودول الخليج على حدٍّ سواء وأنّ الافضل انجاز الترتيبات التسووية الآن لا الرهان على الادارة المقبلة وتعمّد إهدار الوقت الآن.

وتراهن واشنطن على واقعية طهران السياسية وإدراكها أنّ استغلال الفترة المتبقية من ولاية أوباما الرئاسية تشكل فرصة ممتازة لإنجاز تسوية معقولة للجميع، ذلك أنّ سياسة أوباما معروفة بـ«القوة الناعمة»، فيما الآتي الى البيت الابيض وهو على الأرجح هيلاري كلينتون مضطر الى انتهاج سياسة «القوة الخشنة» بسبب التعقيدات المستجدّة على المستوى الدولي وعلى صعيد الشرق الاوسط والاهم بسبب التحوّلات التي طرأت على المزاج الاميركي والتي تمّت ترجمتها بظاهرة دونالد ترامب.

وانطلاقاً من هذه النقطة فإنّ أوساطاً ديبلوماسية اميركية تعطي للقرار الاميركي حول المصارف اللبنانية وحزب الله أبعاداً اميركية داخلية اضافة الى موجباتها السياسية.

وتروي هذه الأوساط أنّ الادارة الاميركية والتي تعمل على إمرار كلّ موجبات الاتفاق النووي والذي أُبرم مع ايران، عمدت الى رفع سقف الهجوم مستهدفة حزب الله بهدف اسكات معارضي الاتفاق داخل الكونغرس والذين يتأثرون باللوبي الاسرائيلي.

لكنّ هنالك اهدافاً اميركية اخرى بلا شك ولها علاقة مباشرة بلبنان والحرب الدائرة في سوريا. فإنسجاماً مع قرار الادارة الاميركية بإنجاز قاعدة حلّ قبل رحيل أوباما فإنّ الضغوط المصرفية الاميركية تهدف الى مسألتين: الاولى توجيه ضربة لحزب الله وإضعافه لجهة إثارة طبقة رجال الاعمال الشيعة ضده وإلزامهم بالابتعاد عنه خشية تأثر مصالحهم ما سيؤدّي الى تليين مواقفه في سوريا ولبنان في آن معاً.

والضغوط الاميركية على المصارف اللبنانية لها سقف لن تتخطّاه واشنطن ويتلخّص بما ردّده مسؤولون اميركيون امام زوارهم اللبنانيين منذ اشهر: «سنعمد الى هزّ القطاع المصرفي في لبنان لكنّ ذلك لن يؤدي ابداً الى إسقاطه، فهذا خط احمر نحن نلتزمه بقوة».

والمسالة الثانية أن يؤدي عامل الضغط هذا الى فتح باب التفاوض مع حزب الله تمهيداً لنسج علاقة معه مستقبلاً تحت سقف المناخ الجديد بين واشنطن وطهران.

وفي هذا الاطار استقبلت واشنطن وبدعوة منها المدير العام للامن العام اللواء عباس ابراهيم في أوّل زيارة له منذ تولّيه مهماته، وشملت الزيارة التي تزامنت مع بدء الاجراءات الاميركية المصرفية مسؤولين أمنيين وآخرين في الادارة الاميركية.

في هذا الوقت بدت فرنسا ناشطة بدورها في شأن الازمة اللبنانية. وكان لافتاً كلام السفير الفرنسي ايمانويل بون حول التحضير لمؤتمر دولي مخصّص للأزمة اللبنانية قبل أن ينفيه.

وحصل ذلك في موازاة استقبال الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند للبطريرك الماروني صاحب مبادرة رئيس جمهورية لفترة انتقالية مدتها سنتين، ومن ثمّ استقباله للرئيس سعد الحريري للمرة الثانية خلال ثلاثة اشهر، على رغم أنّ الحريري لا يشغل أيّ منصب رسمي في الدولة اللبنانية.

وتحدثت أوساط ديبلوماسية في باريس عن خلفيات الحركة الفرنسية، فقالت إنّ تحديد باريس موعد زيارة الحريري الاخيرة لقصر الايليزيه جاء ليتزامن مع انتهاء الانتخابات البلدية في جبل لبنان، وتحديداً بعدما تكون نتائج انتخابات جونيه قد ظهرت.

ذلك أنّ فرنسا كانت تراهن على أنّ خسارة العماد ميشال عون في جونيه ستسمح بالاندفاع في ايجاد حلّ للأزمة الرئاسية على قاعدة سقوط حجّة عون حول تمثيله المسيحي.

وحسب هذه الاوساط فإنّ باريس تابعت عن كثب تفاصيل التحضيرات لمعركة جونيه وأنّ هذا ما فُسّر الى حدٍّ بعيد حقيقة موقف «القوات اللبنانية». وبدت الديبلوماسية الفرنسية سعيدة للزيارة التي قام بها العماد عون لجونية كون ذلك سيؤدّي الى استثمار افضل لنتائج المدينة سياسياً.

وبالتالي كانت ستحصل هجمة ديبلوماسية تطالب بتنحّي عون جانباً في الملف الرئاسي أو في افضل الحالات فرض تسوية «رئيس السنتين» للإشراف على برنامج واضح.

لكنّ الديبلوماسية الفرنسية التي سهرت مع اللبنانيين حتى ساعات الفجر الاولى في انتظار ظهور النتائج نصحت قصر الايليزيه بأنّ الاستثمار المطلوب من نتائج انتخابات جونية لم يعد قائماً.

ولذلك جاء اجتماع هولاند بالحريري بلا نتائج فعلية أو ملموسة، فيما اكتفى الحريري بمراجعة عامة للمشاريع المطروحة، اضافة الى نقله رسالة من الرئيس التركي اردوغان تتعلق بالعلاقات التركية ـ الاوروبية والموقف الفرنسي إزاءها.