لا توحي الزيارة الثامنة لوزير الخارجية الأميركي انطوني بلينكن الى المنطقة منذ اندلاع الحرب في غزة أنها ستحمل نتائج مُغايرة عن سابقاتها. وهو ما يعني أنّ الضغوط الأميركية التي بلغت ذروتها قبَيل انعقاد القمة الأميركية ـ الفرنسية في باريس، لم تنجح في تطويق تعنّت رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو واليمين المتطرف المتحالف معه.
ولا شك في انّ بايدن شعر بأنّ آماله تراجعت في إمكانية قطع كل سبل المناورة أمام نتنياهو لدَفعه الى الموافقة على قرار وقف النار، ولو أنه لم يفقد الأمل في إمكانية نجاح مبادرته في حال استمراره في الضغط.
وما جعله يحدّ من آماله أكثر أنّ استقالة بيني غانتس وغادي آيزنكوت من الحكومة الإسرائيلية أدت الى «إعادة تجديد شباب» الحكومة اليمينية بدل تضييق هامش المناورة لدى نتنياهو. فالإحتجاجات في الشارع لم تؤد الى مؤازرة شعبية واسعة لإيقاف الحرب. وبالتالي، فإن الحكومة الإسرائيلية عادت حكومة يمينية صافية تحظى بتأييد غالبية 64 نائباً من أصل 120، والأهم أن لا وجود لأي تهديدات حقيقية أمام استمرارها. أما الرهان على خلافات داخلية بين أعضائها فهو لا يبدو واقعياً حتى الآن، ذلك أن ما يجمع أعضاءها أكبر وأكثر أهمية مما يفرّقهم.
وقد يكون خروج غانتس وآيزنكوت قد منحَ بن غفير وسموترتش مساحة أوسع للحركة والتأثير داخل الحكومة وعلى نتنياهو أيضاً. ووفق هذه الصورة لا بد أن يكون بلينكن قد أيقن حتى قبل البدء بجولته الثامنة أن الحكومة الإسرائيلية التي التقطت لِتوّها ورقة نجاحها بتحرير أربعة أسرى، إنما تخضع لمنطق الإستمرار في الحرب «لاستكمالها» في غزة، وأيضاً للتوصل الى أهدافها في جنوب لبنان.
وبالتالي، فإن مندرجات المشروع الذي يحمله بلينكن لم تعد تحظى بدفع قوي. وهذا المشروع كان يرتكز على عناوين عدة تتلخص بالآتي:
ـ وقف إطلاق النار في غزة لمدة أربعة أشهر على الأقل في مقابل إطلاق الأسرى.
ـ التوصل الى تسوية مع لبنان، وهي أصبحت جاهزة في معظم نقاطها ومفاصلها وقد أفصَحَ عنها آموس هوكشتاين قبل انعقاد القمة الأميركية ـ الفرنسية.
ـ تحقيق التطبيع مع السعودية وهو ما يعني طَي صفحة النزاع العربي ـ الإسرائيلي في شكل كامل.
ـ إعادة ترميم العلاقات الدولية مع إسرائيل والتي تضررت كثيراً خلال الأشهر الماضية.
وهنالك ما هو أسوأ بالنسبة الى إدارة بايدن. فالانطباعات التي عاد بها زوّار لإسرائيل الى شخصيات يهودية أميركية لا تشغل مناصب ومواقع رسمية في المرحلة الحالية ولكنها قريبة من الحزب الديموقراطي، أجمعَت على أن حكومة نتنياهو ستستمر في حربها على غزة خصوصا مع خلو الساحة من أي «حوافز» سياسية حقيقية، ومع وجود احتمال قوي بامتداد هذه الحرب في اتجاه الجبهة المفتوحة مع لبنان. وفي هذا السياق تقول أوساط ديبلوماسية مطلعة على التحذير الأميركي انّ توسيع الحرب مع «حزب الله» في جنوب لبنان سيدفع إيران الى المشاركة فيها. والهدف واضح هنا وهو التأثير على حكومة نتنياهو لعدم الدخول في هذه المغامرة التي يدفع اليمين المتطرف في اتجاهها. وهنا تكمن النقطة التي تقلق لبنان وما تزال تبدو حتى الآن غير محسومة.
وعلى رغم من التصاعد المستمر في مستوى المواجهات إلا أنه لا يبدو أن هنالك إمكانية لتدحرج الأمور قبل 24 تموز المقبل وهو موعد إلقاء نتنياهو كلمة أمام مجلسي النواب والشيوخ في واشنطن، وسيهدف الى اللعب على الغرائز عبر استحضار ملف الدخول المكسيكي غير الشرعي الى الأراضي الأميركية وسيعمل على إبراز وجوه شَبه مع الفلسطينيين في غزة (وهذا مُجاف للحقيقة والواقع)، وهو ما يلقى اعتراضا واسعا في الأوساط الأميركية المختلفة. وسيهدف أيضا من خلال هذه النقطة بالذات الى تعزيز أوراق وحظوظ المرشح الرئاسي الجمهوري والذي يحمل لواء هذه القضية على حساب بايدن. وبالتالي، يصبح 24 تموز يوماً مفصلياً قبل أن يعود نتنياهو معتبراً أنه نجح في تحضير أجواء أميركية ملائمة وليبدأ في تصعيده الحربي في اتجاه لبنان. مع الإشارة هنا الى أنّ الإدارة الديموقراطية ستكون في حال العد العكسي لتراجع قدرة تأثيرها بسبب اقتراب موعد الإنتخابات، إضافة الى شعورها ربما بعدم إثارة اللوبي اليهودي أكثر، خصوصاً أن الحرب ستكون مع «حزب الله» الذي لا يحظى بشعبية في الداخل الأميركي.
ولا شك في أن هذه الصورة تناقض ما كانت إدارة بايدن تدفع في اتجاهه. خصوصاً أنّ الظروف الدولية باتت تعمل ضد رؤيتها. ذلك أنّ الصعود الصادم لليمين المتطرف على المستوى الدولي العام لا يلائم إدارة تُصنّف بأنها يسارية السلوك.
فالقاعدة الشعبية التي تُساند ترامب هي في جوهرها يمينية متطرفة. وبالتالي، فهي لن تتأثر كثيراً حتى بالأحكام القضائية. وفي أوروبا موجة متصاعدة لليمين المتطرف أصابت كالزلزال فرنسا في العمق، والتي تستعد لانتخابات نيابية سريعة ستكرّس على الأرجح اليمين المتطرف الحزب الأقوى وستجعله محور الحياة السياسية أيّاً يكن مجرى الأحداث مستقبلاً. وهو ما يهدد الإدارة الأميركية بورقة تحالفاتها الأوروبية والتي كانت تعتبرها حجر ارتكاز في سياستها الدولية، وأيضا في مشاريعها الشرق أوسطية.
ولا حاجة للتذكير أن التحول الكبير في الشارع الإسرائيلي لمصلحة اليمين واليمين المتطرف كسر كل القواعد التي كانت تقوم عليها المدرسة السياسية الإسرائيلية. فعلى رغم من دخول الحرب شهرها التاسع ووجود أعداد أسرى مرتفعة ومعظمهم من المدنيين، إلا أن التوجه الغالب في الشارع الإسرائيلي هو الإستمرار في الحرب ولو على حساب إطلاق الأسرى. ويشكل هذا الأمر انقلابا مدهشا في السلوك الإسرائيلي. لا بل انّ هذا الشارع يؤيد بنسبة 56% شَن حرب واسعة على لبنان بهدف ضرب «حزب الله». أضف الى ذلك فإنّ خلافات السياسيين تزول وتتوحّد خلف مطلب شن الحرب على لبنان.
ولذلك لا تبدو حركة بلينكن واعدة حتى الآن، إلا إذا ظهر مُعطى جديدا حاسما. وفي المناسبة فإنّ بلينكن كان مهتما أكثر في هندسة صورة «اليوم التالي» للمنطقة الى جانب ملف وقف إطلاق النار، والذي كان مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان يتولى تفاصيله. لكن بلينكن قد يكون نجح في التأسيس لهذا الملف، ولو انّ لحظة وقف إطلاق النار لن تفتح الباب للانطلاق به، أقلّه حتى الآن.
وفي ملف «اليوم التالي» مشروع تنسيق عسكري عملت وزارة الدفاع الأميركية على تحضيره، وعززت نتائج المواجهة الصاروخية الجوية بين إيران وإسرائيل ودروسها على السير به. ووفق ما هو مطروح العمل على بناء آلية تعاون بين عدد من جيوش المنطقة في الشرق الأوسط وتحت المظلة الأميركية. ففي المواجهة الصاروخية ظهر أن المظلة التي بناها الجيش الأميركي بسرعة أثبتت جدواها وأدت الى أهدافها. وبالتالي فإن وزارة الدفاع الأميركية تعمل على مشروع التنسيق بين كثير من الدول حول قدرات الرادار والمراقبة، وتأمين الإنذار المبكر وتنظيم هذه القدرات وفق آلية علمية ومن ثم الاستعانة بالقدرات الصاروخية المضادة للصواريخ بالتعاون مع القوات الجوية. واستطراداً العمل على بناء دفاعات جوية تشمل كل أجواء الدول الأعضاء، والتي ستتشارك مع إسرائيل في المشروع المقترح الذي يقضي بتنظيم القدرات ودمجها.
وإذا كانت قاعدة «العديد» الاميركية في قطر قد أدّت دورا مؤثرا في طريقة تنظيم المواجهة الصاروخية الجوية التي حصلت مع إيران، فإن غرفة العمليات البحرية المشتركة والعاملة في بحر الخليج لمواجهة صواريخ الحوثيين تعطي إشارات تشجيعية في هذا الإتجاه.
في الخلاصة إن قمة باريس التي أرادتها إدارة بايدن نقطة تحول في الحرب الدائرة في غزة بعد أن بلغت الضغوط ذروتها، أظهرت أن المسار العام للمزاج الشعبي يعمل عكس وجهتها، وأنّ السباحة عكس التيار تبدو صعبة ولو أن لا شيء مستحيل في السياسة.