لم ينتظر بعض اللبنانيين المعنيين بملف العلاقة بين باريس وبيروت، ما أدلى به الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند كي يلتقطوا خيط التغيير الجوهري الذي طرأ على سياسة «الأم الحنون» تجاه التطورات الحاصلة في الشرق الأوسط.
كما لم يتفاجأوا بالإعلان عن زيارة رسمية سيقوم بها سيد الإليزيه الى بيروت خلال أسابيع قليلة من شأنها أن تدل بالصوت والصورة على الأهمية القصوى التي تمنحها باريس للأزمة اللبنانية أولاً، ولحضورها في المنطقة ثانياً.
في جعبة هؤلاء الكثير من الأدلة التي ساعدتهم على قطع الشك باليقين للتأكد من أن مقاربة جديدة وضعت على طاولة الإليزيه من شأنها أن تثبت الانعطافة الجديدة في السياسة الفرنسية ازاء ملفات المنطقة المشتعلة.
يعود هؤلاء الى الاتفاق النووي وما يمكن له أن يحمل من تفاهمات سياسية تحمل بصمات واشنطن وطهران، قبل أن تلحقهما بقية الدول المعنية، ليقولوا بكلام أوضح إنّ الإدارة الفرنسية استسلمت للواقع الجديد في المنظومة الدولية بعد خروج الجمهورية الاسلامية من عزلتها، وقررت التعامل معه بواقعية.
تفترض هذه الواقعية، كما يرى هؤلاء، أن تُجاري باريس الرياح الدولية، لا الوقوف بوجهها كما كان يحاول لوران فابيوس القيام به، وبالتالي وضع سياسات خارجية جديدة تتناغم مع الأحداث الكبيرة وتحاكيها. وقد أرسل قصر الإليزيه الكثير من الرسائل المشفرة بهذا الاتجاه.
وبهذا المعنى أيضاً، يقول المطلعون إنّ مقاربة الإدارة الفرنسية للملف اللبناني باتت مغايرة، وستقدم الدلائل، الواحد تلو الآخر، على أنّ نظرتها باتت مختلفة وطروحاتها أيضاً، وهذا ما سيظهر خلال الفترة المقبلة.
بنظر هؤلاء، إنّ العامل المؤثر في هذا التغيير الطارئ هو التفاهم النووي، وما يعنيه من نظرة دولية مختلفة للدور الإيراني في المنطقة، حيث قررت باريس أن تتحرك تحت سقفه ووفق مقتضياته، بعدما تبيّن لها أن سياساتها الخارجية السابقة أخرجتها من المنطقة التي تعرفها أكثر من غيرها، حيث فشلت في تثبيت نفوذها بسبب سوء مقاربتها ودفعت أثماناً باهظة لأنها وقفت بوجه عاصفة التغيير الدولية.
ويرى هؤلاء أنّ المسؤولين الفرنسيين يعرفون جيداً أنّ عودتهم الى الشرق الأوسط ستكون أسهل في ما لو طرقوا الباب اللبناني وسمعوا اجابات مرضية تسمح لهم بلعب دور ايجابي لحلحلة تعقيدات هذا الملف، واعادة المؤسسات الى سكة العمل من جديد، خصوصاً أنّ كل المعنيين يعرفون أنّ الملف اللبناني سيحلّ عاجلآ أم آجلاً وفق قاعدة لا غالب ولا مغلوب، فما المانع من استعجال تسويته وعدم انتظار قطار التفاهمات الكبيرة؟
طبعاً، إنّ استعادة هذه المكانة لن تتمّ الا اذا نجح الفرنسيون في ارساء قواعد جديدة للسلطة في لبنان، وليس فقط المساهمة في اخراج فخامة الشغور من القصر الرئاسي. ولهذا يتداول المطلعون بأفكار أكثر توسعاً، حيث يكشفون أنّ المداولات الأخيرة في الإدارة الفرنسية تخطت عتبة الاستحقاق الرئاسي لتشمل سلة تفاهمات كبيرة تعيد «تقليع» الوضع اللبناني برمته.
وتشمل هذه الأفكار: الانتخابات الرئاسية، قانون الانتخابات، بعض الآليات السياسية التي تثبت نوعاً من التوازن في السلطة بين المكونات الأساسية، والدور المسيحي.
يجزم هؤلاء أنّ تحرك الفرنسيين هذه المرة مختلف عن كل المرات السابقة، وهو يحصل بـ «قبة باط» أميركية وتحت سقف التفاهم النووي وما يعنيه من الحفاظ على التوازن اللبناني الدقيق، وبدعم فاتيكاني بارز. ولهذا يحرص هولاند على أن يدير هذا الملف بنفسه بواسطة أبرز مستشاريه ايمانويل بون ليكون عينه وعقله في لبنان، والذي وصل بيروت على عجل للتأكيد أنّه مستعجل لبدء حركة مشاوراته مع القوى اللبنانية بحثاً عن صيغ ترضي زعماءها وتعيد اليهم الاستقرار السياسي.
بالنتيجة، لن يستأنف مدير الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في وزارة الخارجية الفرنسية جان فرنسوا جيرو جولاته المكوكية بين بيروت وطهران، بفعل المناقلات الديبلوماسية بالدرجة الأولى، وبفعل التغيير الذي طرأ على سياسة باريس الخارجية والتي سيوليها هولاند عناية خاصة في المرحلة المقبلة، من خلال رئيس بعثته الديبلوماسية الى لبنان.
الأكيد أنّ العودة الفرنسية ليست مضمونة النتائج بالنسبة لمتتبعي هذا الملف، لكنها محاولة جديدة للبحث عن ابرة التفاهم في كومة الخلافات والارتباطات الاقليمية، وذلك من خلال البوابة المسيحية.
ولهذا يعتقد هؤلاء أن المسيحيين أمام فرصة جدية لاستثمار هذا التحوّل والاستفادة من دور قد يمنح لهم في حال أدركوا أهميته ونجحوا في تفعيله، ليكونوا صمام أمان الاستقرار اللبناني بين المكونين الأساسيين الآخرين، أي السني والشيعي. وقد يكون ذلك من خلال الدور الضامن والمكانة في تركيبة النظام وخارطة الصلاحيات.
هكذا، يدعو هؤلاء الى رصد أداء البطريركية المارونية التي يعتقدون أنّ باريس ستوليها أهمية خاصة، في حال نجحت مساعيها، لتكون حاضنة لأي تفاهم رئاسي ـ نيابي ـ سياسي قد يحصل.
ومع ذلك، من غير المتوقع أن يحمل الرئيس الفرنسي في جعبته اتفاقاً جاهزاً ليبصم عليه اللبنانيون، الا أن المطلعين يؤكدون أنّ مشاورات الإدارة الفرنسية بدأت منذ فترة، وهي لا تتوقف على القوى اللبنانية، لا بل تشمل الدول المعنية بالملف اللبناني، للسعي الى تسجيل اختراق ما يوائم التطورات الدولية، وتحديداً التفاهم النووي، وعليه فقد يقدم هولاند خريطة طريق للحل متعددة الجوانب من شأنها أن تقود الى محاولة جدية لتفاهم لبناني – لبناني يضبط الأوضاع في المرحلة المقبلة.