Site icon IMLebanon

كلام في السياسة | زيارة باريس… بصراحة علم النفس

في اللغة الفرنسية كلمة لا تعريب لها، هي Ambivalence. ومعناها توصيف حالة إنسانية متنازعة بين اتجاهين متناقضين حيال لحظة واحدة أو حدث واحد. أن تكون فرحاً بأمر ما وحزيناً منه. أن تكون غاضباً وراضياً. أن تكون راغباً في قبول ونازعاً نحو رفض. هي حالة يستعيرها علم النفس لتوصيف أوضاع علائقية معقدة. لكنها تظل في أدبيات السياسة والصحافة والإنسانيات، حالة طبيعية في ظروف استثنائية.

قد تكون هذه المفردة بالذات أفضل ما يستخدم لوصف زيارة أي مسؤول لبناني إلى باريس، خصوصاً زيارة مسؤول روحي، وبالأخص بطريرك الموارنة. منذ اللحظة الأولى لوصول طائرة البطريرك الكاردينال الراعي إلى فرنسا يوم السبت الماضي، كانت هذه الحالة حاضرة في كل تفصيل. على أرض المطار كان التنازع الأول: أي سيارة يستقلها غبطته؟ تلك الصغيرة التي خصصتها له السلطات الفرنسية، أو سيارة السفارة اللبنانية هناك، وهو ضيف لبناني غير رسمي، أو سيارة علة قيام الزيارة، بداية، نائب رئيس الحكومة اللبنانية سابقاً عصام فارس؟ لحظات من التنازع معبّرة بعمق عن كل العلاقة اللبنانية ــــ الفرنسية، والمسيحية ــــ الفرنسية. بعدها كرّت التنازعات: كيف تفتتح البطريركية المارونية أبرشية خاصة في الأراضي الفرنسية؟ من يتحمل أعباءها المرهقة في جمهورية لم تعد تحفظ من علمانيتها إلا عداءها للكنيسة، فيما رئيس وزرائها يتخبط في كيفية تعيين ممثل رسمي للمسلمين الفرنسيين. وآخر صرعات باريس في هذا المجال، احتساب أصوات التثقيل لكل إمام مسجد فرنسي، بحسب عدد الأمتار المربعة لمساحة مسجده! فيما رفع لافتة لحفلة يعود ريعها لمساعدة مسيحيي الشرق، يواجه برفض إداري وبنزع الإعلان عن حافلات المترو. لينتهي بنزاع قضائي لدى «حارس الأختام» في «الابنة البكر للكنيسة». ثم كيف تتعامل أبرشية فرنسية مارونية مع الكنيسة الكاثوليكية، صاحبة الاختصاص القانوني الكنسي في كل ما هو خارج نطاق بكركي البطريركي؟ وصولاً إلى كيف يحدد موعد البطريرك مع الرئيس الفرنسي، ومن يرافقه؟ وهل يتخلله لقاء ثنائي أم لا؟ وهو ما ظل عالقاً حتى عشية اللقاء المؤجل من أمس إلى اليوم. حتى حسم في اللحظات الأخيرة بموعد لوفد كنسي يضم عدداً من المطارنة المرافقين لغبطته، قبل أن يتوج بخلوة ثنائية …

ليست مجرد تفاصيل هامشية ثانوية في الشكل. ولا هي علامة من علامات سوء التنظيم أو الارتجال والسرعة في العمل أو التسرع في القيام به. بل هي دلالة عميقة حول هذا التنازع العلائقي. هي هذه المفردة الفرنسية لا غير. فالمسؤول اللبناني، وخصوصاً البطريرك الماروني، أي بطريرك، يذهب إلى باريس وفي ذاكرته الحية الحاضرة صور من تاريخ يبدأ بالملك لويس التاسع والحملة الصليبية السابعة منتصف الثالث عشر. ثم رسالة لويس الرابع عشر حول حماية الموارنة منتصف السابع عشر. إلى نظام القناصل منتصف التاسع عشر. وصولاً إلى إعلان فرنسا للبنان الكبير سنة 1920. يضج الوجدان التاريخي للموارنة باستلاب عقلي وذهني من تلك المحطات. بتغرب عن الذات والبيئة والمحيط، دفعوا ثمنه عند كل مفصل من تلك المفاصل. في المقابل تستقبل باريس أي مسؤول لبناني، وعينها على سواه. بل على غير لبنان. حتى يبدو أن وطن الأرز كله يقع في النقطة السوداء من النظر الفرنسي الآتي إلى الشرق المعقد بأفكار مبسطة، كما قال يوماً ديغول. تفتح فرنسا أبوابها لأي مسؤول لبناني، بذهن شارد، تارة صوب مصالحها في سوريا، كما في عهدي شيراك، وطوراً صوب السعودية، كما مع الصناديق المستعملة التي وضبت فيها قبل أيام أربع دزينات من صواريخ ميلان، لا تحتاجها هي ولا نحن أيضاً. وتستقبلنا باريس دوماً بذهن شارد صوب مصالحها الأبعد منا والأكبر من بلدنا واقتصادنا. مع ما يستتبع هذا الفارق بين توقعات اللبنانيين وحسابات الفرنسيين، من سوء فهم ومن توترات مكتومة. لم تخرج إلى العلن غير مرات قليلة. منها يوم دعا كميل شمعون وبيار الجميل إلى إضراب مسيحي عام ضد مواقف وزير خارجية باريس لوي دي غيرنغو، من الحرب السورية على الأشرفية صيف 1978.

غير أن أهم عنصر في فهم متلازمة هذا التنازع الراهن، ليس التاريخ طبعاً، ولا المصالح المتمايزة في الحاضر، ولا المصائر غير المتقاطعة في المستقبل بين بيروت وباريس. أبرز سبب لتلك الحالة هو بكل بساطة، عجز اللبنانيين، وخصوصاً المسيحيين، وبالأخص الموارنة، عن بلورة رؤية لما يريدون للبنان وفيه. وعجز فرنسا عن تحقيق أي تصور أو مشروع في هذا المقلب من المتوسط. هكذا تصير العلاقة نوعاً من حوار طرشان. بين من لا يعرف ماذا يريد، ومن لا يقدر على أي تلبية. بين من لا مطلب ممكناً له، ومن لا إمكان له لتجسيد أي طلب ممكن. بين اللانية واللافعل. أصلاً، هي هذه الحالة النفسية الإنسانية بالذات، ما يشخصه علم النفس بتلك المفردة الفرنسية التي لا ترجمة عربية لها، تماماً كما لا ترجمة لبنانية لأي زيارة فرنسية… رغم كل ذلك ستظل الزيارات قائمة، لا لشيء إلا لأن باريس ستظل مدينة الأضواء الجاذبة لكل تائه في كل ظلمة. وظلام شرقنا ولبنان كبير، وتيهنا فيهما سيظل يكبر.