بعدما نأت معظم الدول بنفسها عن لبنان الذي يتخبّط بأزمته الاقتصادية – المالية التي تهدد بانفجار اجتماعي شديد الخطورة، دخلت باريس على خطّ الزلزال اللبناني من باب السعي لفصل المسار السياسي المرتبط بالصراع الاقليمي، عن المسار الانقاذي الذي يستدعي تدخلاً دولياً داعماً للبنان كي تتمكن حكومة حسان دياب من وقف الانهيار.
في السراي الحكومي، خلية نحل اقتصادية – مالية تصل الليل بالنهار، في محاولة للتدقيق في كل الخيارات المتاحة أمام لبنان ووضع السيناريوات الأقل كلفة لأنّ كل المسارات باهظة الثمن، وعلى الحكومة الاختيار بين السيئ والأسوأ.
ثمة فريق استشاري مالي – نقدي يعمل في السراي بعيداً من عدسات المصورين والميكروفونات، على مرأى من عينيّ رئيس الحكومة حسان دياب ووزير المال غازي وزني، يعمل على دراسة كل المقترحات الممكنة، سواء في ما يتصل باستحقاقات اليوروبوندز لهذا العام أو في ما خصّ الدين العام ككل.
ولكن هذا التدقيق المعمق الذي سيستدعي وضع خطة متكاملة يفترض أن تأخذ بها الحكومة، لن يكون مجدياً اذا لم يجد لبنان من يلاقيه من المجتمع الدولي، وتحديداً من الدول والصناديق المانحة أو المقرضة، واذا لم تقتنع الولايات المتحدة بضرورة وقف الضغط على لبنان، كما ألمح إليه وزير المال الفرنسي برونو لومير محذراً من “خلط التعافي الاقتصادي في لبنان مع الجهود التي تقودها الولايات المتحدة لمواجهة إيران في المنطقة”، بعدما أعلن أنّ “فرنسا مستعدة لدعم لبنان مالياً، في إطار ثنائي أو متعدد الأطراف”.
وبعد أقل من أربع وعشرين ساعة، عاد الوزير الفرنسي ليؤكد أنّه بحث الوضع في لبنان مع القيادة الإماراتية في أبوظبي، مشيراً إلى أنّ “باريس تدرس خيارات مختلفة لدعم لبنان من بينها برنامج لصندوق النقد إذا طلبت الحكومة اللبنانية ذلك”.
اذاً، ما أدلى به الوزير الفرنسي في نهاية اجتماع لمسؤولي المالية من “مجموعة العشرين”، لم يكن عبثياً أو مجرد موقف ديبلوماسي لا يخرج عن العموميات. لا بل ينطوي على تطور في الموقف الدولي ازاء الأزمة اللبنانية، كما يؤكد مطلعون على موقف رئيس الحكومة.
وفق هؤلاء، فإنّ الإدارة الفرنسية تعمل منذ مدّة، بالتنسيق مع الحكومة اللبنانية على محاصرة الأزمة الاقتصادية – المالية، سواء من خلال المتابعة الدقيقة لمجريات العمل الاجرائي، أو من خلال الاتصالات مع الدول الفاعلة وتحديداً الولايات المتحدة الأميركية. فباريس هي من أكثر الدول الغربية حماسة لوقف التدهور الدراماتيكي في لبنان لاعتبارات عدة تتصل بمصالحها أولاً وبنظرتها ثانياً لطبيعة لبنان ونموذجه في المنطقة. ولذا لا تزال تحرص على تجميد سلّة القروض التي تمّ الاتفاق عليها ضمن مؤتمر سيدر، بانتظار الاجراءات الاصلاحية التي يفترض بالحكومة وضعها موضع التنفيذ.
ولكن، إلى جانب مبادرة الحكومة اللبنانية لتنفيذ البرنامج الاصلاحي، ثمة تحدٍّ أساسي لا بدّ من مواجهته قبل وضع الاجراءات الانقاذية، ويتصل بالضغط الأميركي على لبنان، حيث بات معلوماً أنّ هناك وجهتَي نظر تتحكمان بنظرة الإدارة الأميركية للملف اللبناني، واحدة لا تمانع في وقوع البلاد في محظور الانفجار، وأخرى تفضل اللعب على حافة الهاوية لتحقيق أفضل المكاسب قبل تسوية تفاهم يعيد الاستقرار المالي إلى لبنان. وفي هذا السياق، يؤكد المطلعون على موقف رئيس الحكومة، أنّ الادارة الفرنسية تحقق تقدماً في اتصالاتها مع الادارة الأميركية بشكل قد يساهم في التخفيف من الضغط على لبنان، ولهذا يصرّ وزير المال الفرنسي على تظهير ايجابية ادارته ازاء الملف اللبناني على نحو يمهّد الطريق أمام معالجات ممكنة، قد تساعد في تهدئة البركان الاجتماعي الذي يقرب من لحظة انفجاره.
بالنسبة لهؤلاء، تحاذر الدول الأوروبية، ومنها فرنسا وألمانيا سقوط لبنان في المحظور على عكس النظرة الأميركية التي قد لا تمانع من المغامرة في رميه في المجهول. ولذا لا يزال الاعتقاد سائداً أنّ الرهان على الدعم الأوروبي للبنان والمشروط بسلة اجراءات اصلاحية، في محله، على الرغم من محاولات بعض القوى السياسية اللبنانية “التحريض” على الحكومة اللبنانية لدى بعض عواصم القرار، لقطع الطريق على أي مشروع انقاذي من شأنه أن يسمح للحكومة بتسجيل بصمة.
وبالانتظار، يؤكد المطلعون على موقف رئيس الحكومة أنّ الخيارات من استحقاق اليوروبوندز لا تزال قيد الدرس، وإن كان الاتجاه الغالب هو لمصلحة اعادة الجدولة ولو أنّ هذا الخيار مرتبط أيضاً بموافقة الدائنين، مشيرين إلى أنّ هوية الشركتين القانونية والمالية اللتين ستتوليان التفاوض مع الدائنين لم تحسم بعد، وقد تؤجل إلى الساعات المقبلة.