تتعثّر معظم الخطوات للوصول نحو تحقيق الاستحقاق الرئاسيّ وتجسيده بالآمال المعقودة عليه كمدخل لاستقرار لبنان بالمعنى السياسيّ ومنطلق لانبثاث الشراكة الوطنيّة بروح شركويّة طاهرة تعيد الاعتبار إلى التوازن الميثاقيّ المفقود، وتحمل لبنان بكلّ معانيه وحضوره إلى النضارة بعد حقبة طويلة من إصابته بندوب وجراح وتشوّه أفقدته لمعانه وسطوعه.
شخصيّات التقت وزير الخارجية الفرنسيّ جان مارك إيرولت خلال مكوثه في لبنان خرجت بمجموعة انطباعات:
1-لم يحصر إيرولت جولته في لبنان بعنوان واحد بل بمجموعة عناوين استثماريّة، أهمّها طموح فرنسيّ بالدخول في مجال التنقيب على النفط واستخراجه تنفّذه شركة توتال الفرنسيّة. وفرنسا ككلّ دولة لا تقف عند حاجة اللبنانيين بقدر ما تقف عند مصالحها هي. مثال على ذلك أنّ فرنسا عندما دخلت الشرق في القرن التاسع عشر عن طريق مصر ومن ثم عن طريق لبنان من خلال حمايتها لموارنته، انطلقت من استثمار اقتصاديّ تجاريّ وتربويّ، كان لدود القزّ الدور الأكبر فيه، من خلال استخراج القطن وصناعته. والفرنسيون عندما رأوا تنافساً أميركيّاً وروسيّاً بلغ حد تقاسم الحصص النفطيّة قرّروا المحاولة ليصيروا جزءًا من أنظومة متحكمة في المنطقة، ولكنّها محاولة جوفاء، ففرنسا وكما صرّح نائب رئيس المجلس النيابيّ سابقًا إيلي الفرزلي فقدت قدرتها الاستراتيجيّة على ان تكون دولة مؤثّرة في المنطقة، وقد تراجع الدور كثيراً.
2-أتى الرجل إلى لبنان محاولاً استثمار الاستقرار السياسيّ الراسخ أميركيّاً وروسيّاً في لبنان وشدّه بالاتجاه السياسيّ والاقتصاديّ من بوابة الاستحقاق الرئاسيّ فيبلغ لبنان باكتمال تلك العناصر انتظاماً سياسيًّا جديدًا يقيمه في هدوء بعد حقبة من الاضطراب. لكنّ محاولته ما لبثت أن اصطدمت بالفوضى الداخليّة العتيقة والجديدة، والمرهونة بعامل الصراعات في المنطقة وحولها. وتقول شخصيّة خبيرة بالسياسة الفرنسيّة بأنّ أيرولت شاء بمداخلته حول الاستحقاق الرئاسيّ أن يحوّله باباً لانتظام الحياة السياسيّة الداخليّة، وفي الوقت عينه مدى دخول فرنسا منطقة الشرق الأوسط عن طريق لبنان، وما يبدو بانّ طموح فرنسا من هذه الزاوية خال من قراءة استرتيجيّة. وتظهر تلك الشخصيّة العارفة بأنّ الدور الفرنسي أفل وانتهى وليست له تأثيرات لا جانبيّة ولا مباشرة في اجتراح الحلول الجديّة في لحظة يعرف الفرنسيون بأنّها مأخوذة إلى تغييرات واضحة وتبدّل في قواعد اللعبة في المنطقة.
3-جعبة إيرولت خلت بالفعل من عناصر تسوويّة محدودة بشأن الاستحقاق الرئاسيّ بين إيران والسعوديّة على الرغم من بعض المرونة والليونة المبداة هنا. لقد فهم الوزير الفرنسيّ خطأ أنّ الطراوة عند الطرفين جديّة. هي جديّة عند الإيرانيين بنسبة عالية وصادقة لأنّ الإيرانيين راضون بما يرضى به مسيحيو لبنان وهم (أي الإيرانيون) سائرون بما يسير به أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله، غير أنّ الطرف السعوديّ ظهرت طراوته قناعاً أو غلافاً لما هو مضمر. والمضمر خطير بتصوّر كثيرين مرتبط بانتظار تجسيد التطبيع الخليجيّ-الإسرائيليّ وترسيخه في أنظومة الصراع في المنطقة من سوريا إلى اليمن، كمعطى تأثيريّ على كلّ خطوط القتال وفي كلّ التفاصيل السياسيّة المتشعبّة في داخل كلّ دولة كساحة اشتباك يتمّ الصراع فيها أو حولها من لبنان إلى سوريا والعراق والأردن. والجدير ذكره، وبحسب الأوساط العارفة أيضًا، بأنّ إسرائيل عادت لتدخل على خطوط التفاصيل الكبرى الخاصّة بلبنان وجوهرها الاستحقاق الرئاسيّ وقانون الانتخابات، وكما تمّ الاستنتاج أيضاً، إسرائيل لا تريد رئيساً قويّاً في لبنان ولا قانون انتخابات يؤمّن المناصفة الفعليّة والنسبيّة المطلقة، إسرائيل لا تريد وجوداً مسيحيّاً كريماً وفعّالاً ومساهماً في الحياة السياسيّة للبنان ودنيا العرب، والخطورة أن يلفظ التطبيع المرتقب الوجود المسيحيّ مثلما هو لافظ لاعتدال إسلاميّ صادق وطاهر. والجدير ذكره أنّ هذا الأمر قد بلغ مسامع إيرولت في طريقه إلى بيروت.
4-قناعة الأميركيين باستقرار لبنان مشروطة بعدم مغامرة بعض اللبنانيين والاتجاه المطلق نحو روسيا سواءً بالتسلح أو بأيّ قراءة سياسيّة حاسمة على المستوى اللبنانيّ بإمكان الروس أن يشتركوا مع الفرنسيين بتثبيت خطوطها. ومن الواضح أنّ جان مارك إيرولت قد فهم ذلك في بعض وجوهه ولذلك قال بأنه سيتصل بنظرائه الأميركيّ والروسيّ والسعوديّ والإيرانيّ لمحاولة تدوير الزوايا والوصول إلى تثمير زيارته إلى بيروت في إطار صفقة شاملة خاصّة بلبنان تنقل الاستقرار من الإطار الأمنيّ إلى الإطار السياسيّ. إلاّ أنّ ذلك دونه عقبات كأداء في ظلّ تغيير قواعد الاشتباك في سوريا، منها مقتل المسؤول العسكريّ للأكراد في شمال سوريا، كمحاولة واضحة لإضعاف العصب الكرديّ. ومن المعروف أن قناعة مشتركة جامعة بين تركيا وسوريا برفض وجود دولة كرديّة وهذا قائم في العقل الروسيّ. هذا عامل يشي بالتبدّل الواضح وهو غير بعيد عن رئيس الدبلوماسية الفرنسيّة، فضلاً عن تقارب تركيّ-إسرائيليّ عنوانه أنابيب النفط، وتطبيع عربيّ-إسرائيليّ عنوانه المنطقة. والتقارب التركيّ-الروسيّ قد يصب في الهدف عينه، وكلّ ذلك تبقى مدينة حلب وريفها مسرحه. بمعنى أنّ إيرولت لا يملك القدرة على حسم ملفّ تفصيلي في لعبة الأمم وجوهريّ في الحياة السياسيّة اللبنانيّة قبل رسم خريطة جديدة للمنطقة استناداً إلى نتائج معركة حلب المرتقبة وانطلاق التسوية السياسيّة السوريّة من رحمها الممزّق.
تلك الانطباعات السائدة عند من عاصر زيارة جان مارك إيرولت أو لتقاه حوافز دقيقة تستدعي المزيد من العقلانيّة والتبصّر عند اللبنانيين. ليس سهلاً على الإطلاق أن يكون لبنان بين خيارين إمّا انتخاب رئيس أو مؤتمر تأسيسيّ. ذلك أنّ العقم السياسيّ إن اشتدّ بحروفيّته قادر على أخذ البلد نحو الانفجار، فيكون الانفجار منطلقا لتسوية تكتبها النار الحارقة ويطلقها الرماد والركام بدلاً من أن يظهرها النور الهادي، نور العقل الراشد والمرشِد. لقد قال الرئيس نبيه برّي بأنّ الطائف ليس إنجيلاً ولا قرآناً وليس ثمّة إرادة بتغيير الطائف فلنستكمل تنفيذ بنوده. ولكنّ السؤال المطروح بإلحاح شديد عن اي طائف بتنا نتكلّم عن طائف وئد حين ولد، أي طائف تمزّق بفعل ولادته لحظة إيناعه على المستوى الداخليّ مفهوم الطائفة القائدة المستولِدة للمذاهب الأخرى في كنفها؟ أو نتكلم عن طائف توازنت فيه السعوديّة مع سوريا في القبض على لبنان سياسياً واقتصاديّاً وما لبث أن تمزّق بفعل القرار 1559 وانسحاب سوريا وتحوّلها من لاعب الى ملعب، وفيما بقي الجزء السعوديّ راسخاً مع تمسّك المكوّن السنيّ الممثَّل بتيار المستقبل بالامتيازات المطلقة ولو على حساب بقيّة المكوّنات المؤلفة للبنان؟
الاستحقاق الرئاسيّ وكل العناوين الخلافيّة لا يكتب لها التلبنن السليم إلاّ بواحدة من تلك الخاصيّتين:
أ-إمّا الاتفاق على تنفيذ بنود اتفاق الطائف كما جاء في روحيّة النص، ومنها قانون انتخابات جوهره النسبيّة وتجسيد الاستحقاق الرئاسيّ بصورة جذرية وفقًا لإرادة المسيحيين واجتماعهم على مرشّح واحد، والانتهاء من مرحلة الفراغ العبثيّ على كلّ المستويات.
ب-أو الخلوص نحو مؤتمر تاسيسيّ. والمؤتمر التاسيسيّ ليس خياراً شيعيّاً فقط بل يجب ان يكون وبالدرجة الأولى خياراً مسيحيّاَ بحال تمّ رفض الأطروحة المسيحيّة سواءً عبر انتخاب العماد ميشال عون أو عبر قانون انتخابات وفقًا للمواصفات المشار إليها.
إنتهت زيارة جان مارك إيرولت ولبنان على موعد مع طاولة حوار لثلاثة أيام. اللبنانيون امام خيار من خيارين يضاف إلى معظم ما هو مطروح، إمّا انتظار الحسم الميداني السوري وصولاً إلى تسوية جديدة لسوريا ومنها للمنطقة، أو الوصول نحو لبننة الحل، واللبننة تعني الاتفاق الداخلي، وتعني ايضاً كما كتب الراحل فؤاد بطرس في مذكراته حلّ الأزمة بجوهرها وليس بظواهرها. تكوين لبنان الجديد لبنانيًّا خير من انتظار التكوين الجديد للمنطقة فيذوب التكوين اللبنانيّ بتكوين المنطقة، وينسى العالم بلداً جميلاً وفريداً اسمه لبنان.