المناخ الإقليمي حين ستجري الإنتخابات سيترك تأثيره المباشر على موازين القوى الجديدة
«يسعى الحزب إلى تطبيق النموذج العراقي المتمثل بالحشد الشعبي لتشريع سلاحه بقوة القانون والدستور»
يوم صدرت مراسيم تشكيلة حكومة سعد الحريري عقب تسميته رئيساً في الاستشارات النيابية من ضمن الصفقة الرئاسية التي أوصلت العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، خرج الحريري من بعبدا ليعلن ما يشبه «التعهد» بأنه سيسير بقانون انتخاب على أساس النسبية، رغم معارضة «تيار المستقبل» السابقة لقانون على أساس النسبية الكاملة في ظل السلاح غير الشرعي الذي يتحكم به «حزب الله». يومها، جاء التعهد جزءاً من التزامات الحريري في الصفقة الرئاسية لـ«حزب الله»، الذي كان أمينه العام حسن نصرالله سبق أن أقسم بعد الإطاحة بحكومة الحريري، عام 2011، أنه لن يسمح بعودته إلى الرئاسة الثالثة ما دام حياً.
تَعهّد الحريري كان سبقه تعهَّد مماثل من قبل الحليف العوني، الذي كان في «ورقة التفاهم» مع الحزب عام 2006 قد اتفق على «أن النسبية قد تكون أحد الأشكال الفعالة لقانون انتخاب عصري يستوجبه إصلاح وانتظام الحياة السياسية في لبنان». وكان تياره في الحكومة الميقاتية، التي جاءت بقوة سلاح «حزب الله»، ممن أقروا مشروع القانون المرتكز على النسبية الكاملة. مآل هذا الكلام أن قانون الانتخاب على أساس النسبية الكاملة هو مطلب «حزب الله»، الذي نحج في نهاية المطاف بفرضه على مختلف القوى السياسية. وهو تالياً يُعتبر انجازاً سياسياً له مهما حاولت أطراف سياسية تنسبه إليها في إطار تسجيل نقاط في رصيدها.
في نصف الكوب الممتلىء، فإن «النسبية» تُعد خطوة إصلاحية، ذلك أنها ستؤول إلى خلق حيوية لدى شرائح واسعة من المجتمع كانت القوانين السابقة تقطع الطريق أمام أي فرصة لتمثيلها في النظام الاكثري الذي وفَّر إمساك القوى الحاكمة باللعبة الانتخابية، بما بات يعرف بـ«المحادل الانتخابية». من هذه الزاوية، تُشكّل «النسبية» خرقاً مهماً في الحياة السياسية.
لكن استماتة «حزب الله» على «النسبية» كانت دائما تعتريها الهواجس لدى خصومه، إنطلاقاً من قناعتهم أن الحزب لا ينطلق من رؤية إصلاحية للنظام، بقدر ما ينطلق من حساباته السياسية الداخلية المرتبطة بمشروعه الأكبر، والهادفة إلى تأمين كل المناخات والوسائل والظروف التي تُمكِّنه من الإمساك بقرار البلاد، ليس عن طريق فائض القوة بل من بوابة الدستور والقوانين.
من هنا، كانت المخاوف ولا تزال من أن تُفضي انتخابات ربيع 2018 إلى أكثرية برلمانية لمحور «حزب الله» وحلفائه الداخليين والإقليميين، بعدما آلت انتخابات 2005 وانتخابات 2009 إلى أكثرية برلمانية لصالح قوى الرابع عشر من آذار، والتي كانت في الموقع المناوىء لمحور حارة حريك- دمشق- طهران، ما أسهم في إعاقة تحويل أجندة الحزب السياسية إلى واقع دستوري.
المخاوف اليوم تنطلق من أن «الثنائي الشيعي» (حزب الله- أمل) يمسك بالبيئة الشيعية بيد حديدية في مناطق نفوذه في الجنوب، بحيث أن توقعات خسارته مقاعد لصالح لوائح مقابلة تبدو ضئيلة في الجنوب، وقد تصل إلى بضعة مقاعد في البقاع الذي تتحكم به تركيبة اجتماعية مختلفة نظراً إلى دور العشائر وتأثيرها هناك، فيما ستؤول «النسبية»، إلى شرذمة واختراق البيئات الأخرى، وفي مقدمها البيئة السنية لمصلحة خلق مجموعات متفاوتة الحجم والتأثير داخل الطائفة، بعضها يندرج ضمن مشروع المحور الذي يتزعمه «حزب الله»، وبعضها قد يسهل عليه استمالته. وحال الاختراق ينطبق على الطائفتين المسيحية والدرزية أيضاً. فالخارطة السياسية الراهنة، في ظل انفراط عَقْد قوى الرابع عشر من آذار، لا تشي بأن هناك مشروع معارضة سياسية للحزب، فهناك موالاة باتت ملصقة بشكل أو بأخر بالحزب وشروطه، وهناك معارضات لا تنطلق بالضرورة من منطلق المناهضة لـ«حزب الله»، بل المُعارضة لقوى ضمن بيئتها الطائفية لحسابات انتخابية أكثر منها سياسية.
هذا الواقع يخدم، في نهاية المطاف، الحزب ومشروعه. ولعل أول تلك البنود الرئيسية في هذا المشروع، والذي بات مطلوباً تشريعه بإلحاح، يتمثل في سلاح «حزب الله»، إذ سيسعى الحزب إلى تطبيق النموذج العراقي المتمثل بالحشد الشعبي، الذي شرّعه البرلمان العراقي، فأضحى قوة مذهبية موازية للجيش الوطني.
على أن موازين القوى في البرلمان التي ترسمها النتائج الانتخابية لا تقتصر على طبيعة القانون وحدها، وإنما تشمل جملة عوامل أيضاً، منها التحالفات السياسية، التي من الصعب اليوم الجزم المطلق بها، إذ أن ثمة من يعتقد أن «هندسة الأرقام» من شأنها أن تؤثر على طبيعة التحالفات. وتذهب أوساط لصيقة بـ»حزب الله» إلى الاعتقاد أن الحزب قطع نصف الطريق من خلال الدفع لإقرار النسبية، لكن ما تبقى من الطريق مرهون في حسن إدارة المعركة السياسية والتحالفية، وكيفية التعامل مع التعقيدات التي قد يفرزها القانون. ومن العوامل أيضاً، العنوان السياسي للمعركة وقدرته على الاستقطاب الشعبي، فانتخابات الـ2009 شَكَّل فيها العنوان السياسي العامل الرئيسي لفوز قوى الرابع عشر من آذار، حيث أن كثيرين نزلوا إلى صناديق الاقتراح لضمان عدم فوز المحور السوري- الإيراني، خصوصاً أن تلك الانتخابات جاءت على وقْع «غزوة 7 أيار لبيروت والجبل 2008.
وإذا كان تمويل المعركة الانتخابية ومدى تَحكّم المال السياسي في مجرياتها يشكل عاملا من العوامل المؤثرة في تحديد مستقبل البرلمان المقبل، فإن المناخ الإقليمي الذي ستجري الانتخابات في ظله سيترك تأثيره المباشر وغير المباشر على موازين القوى، وربما يكون العامل الأقوى في تحديد اللوائح الفائزة بالأكثرية البرلمانية، فالتحولات التي تشهدها المنطقة مع الإدارة الأميركية الجديدة في ظل الانقسام السني- الشيعي المحتدم في المنطقة كانت من أبرز الأسباب التي دفعت كلا القوتين، سواء «حزب الله» بما يشكل من قوة شيعية منغمسة في الحرب الإقليمية أو «تيار المستقبل» بما يشكل من قوة سنيّة، إلى تدوير الزوايا لتمديد المجلس نحو سنة وإجراء الانتخابات في ربيع 2018، في رهان على أن التطورات في المنطقة لا بد من أن تكون قد تبلورت معالمها والمسار الذي ستسلكه.
كل تلك العوامل سيكون لها تأثيرها في رسم صورة البرلمان المقبل، لكن الأكيد أنه مع إقرار القانون المرتقب اليوم في مجلس النواب، فإن الحسابات الانتخابية سوف تطغى على المشهد السياسي الداخلي، حيث ستسير القوى السياسية في تحديد مواقفها وخطواتها على إيقاع المواقيت الانتخابية!