انتهت الانتخابات على ما انتهت عليه. ولكن ما يجب الوقوف عنده أنّ اللبنانيّين قالوا «لا» بوجه مَن فجّرهم وأفقرهم وجوّعهم ودفعهم إلى الهجرة بالحدود القصوى التي يسمح لهم فيها هذا القانون. ومن المفيد إجراء قراءة هادئة وموضوعيّة عن طبيعة برلمان 2022 الذي من الواضح بأنّه سيكون محكوماً بقاعدتين ثابتتين: المواجهة والتغيير. ولن تتبدّلا طيلة السنوات الأربع القادمة.
وأبرز المعالم التي حملتها هذه الانتخابات هي سقوط معظم رموز النظام السوري الذين كانوا يدخلون الندوة البرلمانيّة بسطوة النظام السوري. وهذا يعني عمليّاً أن ثمار ثورة الأرز قد أينعت وتمّ قطافها. ولا يمكن بعد اليوم لأيّ تابعٍ أن يكون رافعة لمتبوعه في الندوة البرلمانيّة في محاولة للسيطرة الدّستوريّة على مفاتيح القرار. وهذه رسالة يجب أن يقرأها «حزب الله» جيّداً نسبة إلى تبعيّته الإيرانيّة التي يجاهر بها.
وما تمّ العمل عليه منذ ثورة الأرز ستتمّ متابعته اليوم في البرلمان الجديد على قاعدة المواجهة ولن تكون مواجهة بطيئة أو ناعمة كتلك التي استطاع أن يفرضها الحزب بسطوته. بل هي ستكون أسرع وأفعل ممّا قد يتصوّره الحزب نفسه. والكلام اليوم عن تأسيس جبهة سياديّة – سياسيّة من داخل البرلمان قد بُدِئ العمل به. لكن حذارِ وجود أحصنة طرواديّة جديدة في هذا البرلمان قد تعيد لـ»حزب الله» وحلفائه بقوّة الترهيب أو الترغيب أو بقناع العمالة المبطّنة ما نزعه اللبنانيّون منهم بقوّة الديمقراطيّة الحقيقيّة.
لذلك على كلّ مَن يعتبر نفسه مستقلاً ويحمل مشاريع بيئيّة ومدنيّة ومجتمعيّة واقتصاديّة أن يتّخذ موقفاً سياديّاً واضحاً لتثبييت الأكثريّة النيابيّة التي أفرزها النّاس. ماذا وإلا يكون هؤلاء من حيث لا يدرون، كي لا يُظَنَّ سوءًا بأحدهم، عملاء لـ»حزب الله» وحلفائه سرعان ما سينكشفون أمام النّاس. وعسى ألا نضطرّ مجدّداً للإنتظار! من هذا المنطلق، المسؤوليّة الأكبر تقع على عاتق هؤلاء أكثر من السياديّين المعروفين بمواجهتهم المباشرة لمشروع «حزب الله» كحزب القوّات اللبنانيّة وحلفائه. ويجب أن يُسقِطوا من حساباتهم مصطلحات التعميم كلّها التي اعتمدها شارع 17 تشرين الذي ضُلِّلَ بأدوات الإعلام الأصفر.
ولا يمكن إغفال الضربة القاضية التي سدّدها حزب القوّات بإسقاطه الغطاء المسيحي عن «حزب الله» حيث حصد الأكثريّة التفضيليّة مسيحيّاً ولبنانيّاً. وهذا ما سيضع المجتمع المسيحي أمام مسؤوليّات تاريخيّة كبرى هي علّة وجوديّته في هذا الوطن. وأعني هنا تحوّله إلى مجتمع مقاوم سياديٍّ كما كان عبر تاريخه كلّه؛ وليس مجتمعاً مهادناً يوقّع وثائق تفاهم ليُمَنَّ عليه بما هو حقّ له في الأساس.
ولعلّ هذه الانتخابات بنتائجها قد حدّدت شخصيّة رئيس الجمهوريّة المقبل الذي لا يمكن أن يكون من المرشّحين الموجودين في دائرة الرؤساء، أيّ الشمال الثالثة ولا يملك هذه الشخصيّة التي تمّ فرضها بمنهجيّة هذه الانتخابات. ولن يكون أيّ رئيس لا يملك أصوات ناخبيه التفضيليّة. وهذا ما يعني استبعاداً مباشرًاً للمرشَّحَين فرنجية وباسيل لرئاسة الجمهورية. ولا يعني ذلك أنّ المرشّح الوحيد قد يكون سمير جعجع الذي يمثّل المرشّح الثالث المطروح بل أيّ شخصيّة قد تحمل في جيناتها السياسيّة هذه الشروط. ولن يتمكّن «حزب الله» وحلفاؤه بعد هذه الانتخابات من فرض الرئيس الذي يريدونه لو عطّلوا البلاد والعباد لقرون وليس لسنين.
وممّا لا شكّ فيه أنّ هذه الانتخابات قد أثبتت أنّ حزب القوات اللبنانية هو الحزب الأكبر مسيحيّاً ووطنيّاً ليس من خلال عدد النواب الذي حصل عليه بل من قراءة تفصيليّة تفضيليّة للأصوات التي حصل عليها هذا الحزب. فلا يمكن بعد اليوم لأيّ فريق آخر أن يحتكر التمثيل المسيحي ويستخدمه غطاءً لفساده في مؤسسات الدّولة، تحت ذريعة حقوق المسيحيّين.
ولا يمكن إغفال ما تمّ تحقيقه من اختراق من قبل مجتمع 17 تشرين. فهؤلاء مطالبون بتحديد موقفهم السيادي من قضيّة سلاح «حزب الله» والموضوع السيادي بشكل عام. ولا يمكن المواربة في هذا الموضوع لأنّهم سيتحمّلون مسؤوليّاتهم أمام الله والوطن والتاريخ في حال عادوا وأنجحوا مشروع «حزب الله» الذي تمّ إسقاطه في صناديق الاقتراع. ومن المهمّ أيضاً تسجيل الخرق السيادي الذي حصل في طرابلس وهذا ما أعادها إلى الخارطة السياديّة.
ولا يمكن هنا إغفال أيضاً الصوت الجزيني المتعطّش لتحويل منطقته إلى الأنموذج الذي طبّقه تكتّل الجمهوريّة القويّة في قضاء بشرّي الذي تحوّل إلى قبلة أنظار العالم. لعلّ التعطّش الجزّيني إلى الانماء الغائب في هذه المنطقة هو الذي شكّل رافعة للخيار الجزيني الذي كمّل شوقه السيادي به.
وتبقى المعركة الكيانيّة المتميّزة هي تلك التي خاضها في دائرة بعلبك الهرمل الدكتور أنطوان حبشي الذي صار نائباً غصباً عن المحور الإيراني وحزبه. وهذه الحالة ستشكّل أنموذجاً تحرُّريّاً إن لم يستطع اللبنانيّون المراكمة عليه لن يتمكّنوا من تحرير أنفسهم من الهيمنة التي استطاع حبشي أن يكسرها في عقر دارها.
كذلك لا يمكن إغفال النسب الضئيلة لمشاركة الجمهور الممانع الذي عبّر عن رأيه على قدر ما استطاع. وهذا ما يجب المراكمة عليه للمرحلة القادمة. فبنهاية المطاف لا يمكن خنق صوت الحرّيّة طالما بقي نبضها حيًّا في القلوب والنفوس أينما وجدت على مساحة الـ 10452 كم2 ، لأنّ النمذجة هي التي ستحكم المرحلة المقبلة حيث لا يمكن لفاقد الحرّيّة أن يرى المتنعّمين بها ولا يسعى لتحقيقها.
أمّا التغيير الحقيقي فسيكون مسؤوليّة الجميع، ولن نتمكّن من الوصول إليه ما لم يتكاتف السياديّون كلّهم في جبهة واحدة. والإستحقاقات القادمة كفيلة بإظهار صوابيّة هذه الخيارات التي احتكم إليها الشعب. ومَن يَعِشْ يرَ.