IMLebanon

الثابت والمتحول في برلمان 2022

 

 

الرئاسة

 

هو البرلمان الاستثنائي الأول في تاريخ الانتخابات اللبنانية. في الدورات السابقة كان التنافس يحصل بين مرشحين متشابهين ببرامجهم الفارغة وحملاتهم الاستعراضية. في الدورة الحالية فرضت الثورة على المعركة الانتخابية موضوع الدولة وإعادة تشكيل السلطة مادة أساسية على بساط البحث وعلى جدول عمل البرلمان.

 

برلمان 2022 يطرح تحديات وأسئلة من طراز جديد عن محتوى الديمقراطية وعن تجسيداتها وتجلياتها وممارستها، وعلى رأس تلك التحديات ما يتعلق بالآليات التي فرضها نظام الوصاية منذ أول انتخابات بعد الطائف وفرض بموجبها نبيه بري رئيساً يحاكي الشعار البعثي، الأسد إلى الأبد.

 

ثلاثون عاماً تحولت فيها رئاسة البرلمان إلى مادة للتندر. تبدلت خلالها أحوال الدول وتناوب رؤساء كثيرون على حكم بلادهم، وتشكلت حكومات وسقطت أخرى، وتناوبت أجيال كثيرة من الابتكارات العلمية والرقمية ووسائل التواصل، وظلت رئاسة برلماننا هي هي من غير تبديل ولا تعديل، لا تعنيها الحكمة القائلة، لو دامت لغيرك ما آلت إليك.

 

الأمر لا يتعلق باسم نبيه بري بل بما غدا بعضاً من التقاليد الاستبدادية القادمة إلينا من الأحزاب التوتاليتارية، وبالتحديد من تحويل الانتخابات إلى استفتاءات على مرشح واحد. هذا ما كان يحصل في دول المعسكر الاشتراكي وفي الجمهوريات العربية الوراثية التي اهتزت العروش فيها بفعل الربيع العربي، وظلت رئاسة برلماننا في منأى عن هبوب رياح التغيير. بفعل تلك التقاليد صار انتهاك الدستور أمراً سهلاً ومباحاً كشرب كوب من الماء.

 

نظام الوصاية جعل رئاسة البرلمان مدخلاً أساسياً لانتهاك الدستور فكانت بدعة الترويكا والرؤساء الثلاثة وما ترتب على ذلك من خلط «عبّاس بدبّاس» وتداخل السلطات وإزالة كل الفواصل بين التشريعية والتنفيذية والقضائية، حتى باتت الأجهزة الإدارية للدولة مادة للتحاصص بين الرئاسات أولاً ويترك للقوى النافذة الأخرى الفتات، حتى بلغ السيل الزبى فحلت صور رئيس البرلمان في مكاتب الموظفين بديلاً من صور رئيس الجمهورية، ودخل المتحاصصون في سباق على إفراغ الإدارة من الكفاءات وتعطيل أجهزة الرقابة وتحويلها إلى مكاتب حزبية تسود فيها القيم الميليشيوية بدل القانون.

 

انتهى عهد الوصاية بخروج الجيش السوري وبات حكام لبنان من غير غطاء فانكشفت الأخطاء والخطايا ولا سيما في عمل البرلمان. أقفلت أبواب المجلس النيابي وتعطلت أعماله وتحول التشريع إلى هرطقات وحلت بدع وفتاوى واجتهادات وتفسيرات أفرغت المصطلحات الدستورية من معانيها.

 

حماية مقر المجلس النيابي تسببت بتخريب الاستثمارات وبتهجيرها وبتحويل وسط العاصمة إلى قفر وخراب، وتحولت شرطة المجلس إلى ميليشيا، فأطلقت النار على المتظاهرين، وشكلت رديفاً «شرعياً» للمعتدين على خيم الثورة من راكبي الموتوسيكلات وحاملي العصي من الجيران.

 

المجلس النيابي المنتخب هو الذي سيتكفل بالحكم على هذه الأخطاء والخطايا وبالمحاسبة عليها. هو الذي سيعيد الأمور إلى نصابها والبرلمان إلى دوره الطبيعي في المحاسبة والمراقبة والتشريع، وسيقفل «دكان» الشرطة المسؤولة عن فقء عيون الثوار، وسينقل البرلمان من ملتقى هايد بارك إلى ورشة للتشريع، ومن منصة للخطابات المليء بعضها بلغة البذاءة إلى محل للحوار والنقاش الراقي، ومن مسرح للتمثيل على الناس إلى ورشة عمل وخلية نابضة بالبرامج ومشاريع القوانين، ومن جلسات تنتهي بالتهريج وتهريب الحقائق عن النواب وعن الناس إلى إطار للبحث عن حلول للأزمة وعن خطط للتطوير والتحديث واللحاق بحضارة العصر.

 

أما الرئاسة «إلى الأبد» فأمامها مسؤولية من نوع آخر. لقد تحدّد بالعنوان العريض هدف الثورة المتمثل بإحداث نقلة في النظام السياسي اللبناني تتقلص فيه مظاهر الاستبداد الموروثة من الإقطاع السياسي والمكتسبة من نظام الوصاية وتتعزز فيه قيم الديمقراطية واحترام الدستور، ولا سيما منها الفصل بين السلطات وتداول السلطة. وبات التجديد للرئيس في ظل هذا البرلمان منافياً للمعايير التي وضعتها الثورة.

 

في خطابه الأول كرئيس للبرلمان ظهر على صورة رجل دولة من الطراز الرفيع، لكن الصورة تشوهت في اليوم التالي حين لم يقدم استقالته من رئاسة حركة أمل، وفي آخر تصريح له البارحة بدا حريصاً على إعادة بناء الدولة لو لم يختتمه بانتهاك سيادتها حين طالب بإبقاء السلاح غير الشرعي خارج سلطتها وخارج البحث.

 

بين ذاك الخطاب وهذا التصريح خاض مواجهاته ضد احتكار الاقطاع السياسي للتمثيل الشعبي، ولم يسلم «الإقطاع الثقافي» من تصويبه، لكنه حوّل البرلمان إلى أقطاعية نيابية على امتداد ثلاثين عاماً. فهل يكون الرئيس نبيه بري غداً، في أول اجتماع لهذا البرلمان كرئيس للسن، على مستوى التحدي ويبادر إلى اتخاذ قرار تاريخي بالتنحي؟