… أحَد العضوين الأصغر سناً اللذين أشرفا على الاستحقاق الانتخابي في مجلس النواب أمس، النائب أحمد رستم، هو من مواليد عام 1992، العام نفسه الذي انتخب فيه نبيه بري رئيساً لمجلس النواب للمرة الأولى. العضو الآخر هو ميشال المر (حفيد الرئيس ميشال المر الذي ترأس جلسة انتخاب بري قبلَ 4 سنوات). كان ذلك دليلاً على نظامٍ مطّاط قادر على استيعاب جيلين، وجيل عاصَر «النقلة» بينهما. ونظام كهذا يستهلِكه سياسيوه أكثر ممّا يستهلِكهم! لم يحتَج الأمر إلى أكثر من ثلاث ساعات ونيف للتيقن من أن ثمّة شيئاً في هذا النظام يستحيل تغييره.
داخِل قاعة الهيئة العامة لمبنى البرلمان في ساحة النجمة، صندوق خشبي/ زجاجي للاقتراع السرّي. 128 ظرفاً. ثلاث معارك ذاتَ أوزان متفاوتة. كلمات، مواقف، استعراضات وتحالفات مشبوكة «بحرفية» عالية… كلّها أفضَت إلى انتخابات مُعلبّة حسمتها الترتيبات السياسية والطائفية. بعدَ حوالي 3 سنوات من «الشدّ والقدّ»، ثورة وثوار ومعارضة ومنظومة وشعارات، عادَ الجميع إلى قواعدهم واحتكموا إلى التوازنات التي تأكّد أمس أن التغييرات التي أفرزتها صناديق الاقتراع لم تؤثر عليها. القوى السياسية التقليدية أعادت تركيب المطبِخ التشريعي لمصلحتها على مبدأ رابِح – رابِح، أما الأحزاب التي ركبت موجة «المعارضة» (كالقوات والكتائب) والمستقلون والتغييريون فلم يُترك لها مرقد عنزة. مع ذلك، حمل مشهد الأمس رسالة معنوية أكثر مما هي سياسية، أبرزها تجاوز برّي قطوع الدورة الأولى لانتخابه… بشق الأنفس!
لم يبقَ لاكتمال «بازل» برلمان 2022 إلا تشكيل اللجان النيابية وتوزيع رئاساتها، مع ترجيح ألا تختلِف حياكتها عن «حبكة» انتخاب رئيس المجلس ونائبه وأميني السرّ و3 مفوضين. وفي انتظار جلسة انتخاب اللجان الثلاثاء المقبل، يُمكن تسجيل الآتي:
– للمرة الأولى ينُتخب برّي رئيساً برقم بالنصف زائداً واحداً. هذه كانت المعركة الحقيقية بالنسبة للفريق الذي يؤيده. صحيح أن عودته بقوة أنه مرشّح التزكية كانت «بالإيد»، إلا أن الأصوات الضامنة لفوزه من الجولة الأولى كانَت «على الشجرة». توتر الأعصاب لحظة الفرز لم يبدّده إلا تلاوة الورقة 65 التي صوتت لمصلحته، بعدما نجحت الاتصالات المكثفة التي سبقت الجلسة في عدم تكرار ما حصل في جلسة انتخاب رئيس الجمهورية ميشال عون في 31 تشرين الأول 2016، حين انتُخب بعد ثلاث دورات من الاقتراع.
– كانت الجلسة بمثابة اختبار للتموضعات الجديدة بعد الانتخابات النيابية، فأكدت وجود «أكثرية» متحركة تُدار وفقَ الحاجة. وهذه الأكثرية، وفقَ ما تبيّن، في قبضة حزب الله وحلفائه (التيار الوطني الحر وحركة أمل) وكتلة أخرى من النواب المنفردين… وليسَ حزب وليد جنبلاط بعيداً منها «بحسب المصلحة».
– أكدت الجلسة إبرام اتفاق بين بري والتيار الوطني الحر. حصل الرئيس بري على أصوات عونية يُرجح أنها لا تقلّ عن 5، مقابل الأصوات الـ15 التي منحتْها كتلة بري لبوصعب الذي لم يكن ممكناً فوزه من دونها. في حين توالت الأسئلة حول هوية النائب الذي أمّن لبو صعب صوتاً «زمّطه» من تجربة الدورة الثالثة… ورجح أن يكون النائب عبد الرحمن البزري.
فشل نواب «الثورة» بأن يكونوا بيضة قبّان بينَ أغلبيتين وفي تشكيل بلوك تغييري واحد
– فشِلَ نواب «الثورة» بأن يكونوا بيضة قبّان بينَ أغلبيتين وفي تشكيل بلوك تغييري واحد، بل كانوا مشهداً باهتاً في إحدى زوايا القاعة، واحتكرت النائبة بولا يعقوبيان تمثيلهم، يؤازرها النائب وضّاح الصادق. خلافاتهم في الخارج انتقلت معهم إلى داخل المجلس. ظهر ذلك جلياً في عدم التوافق بينهم على مرشّح لموقع نائب الرئيس. في الدورة الأولى لم يصوت أي من النواب 13 للمرشح غسان سكاف، فنال المرشح الياس بو صعب 64 صوتاً، قبلَ أن تؤمن المداولات الجانبية له فوزاً في الدورة الثانية. تغلّبت الشعارات الشعبوية التي فضّل هؤلاء التصويت بها على توحّدهم ضمن إطار نيابي واحد والتكتل خلفَ مرشّح واحد وإن كانَ لتسجيل موقف، فكانَ «نِضالهم» مخيباً للآمال. نقطة وحيدة تُسجل لهؤلاء، وهي توحيد اللباس، إذ ظهروا بلوك الـ «سبور». تخلّى الرجال عن ربطات العنق، والنساء عن الكعب العالي.
– لم يحتج نواب «الثورة» إلى أكثر من جلسة للرضوخ للعبة الطائفية. تجلّى ذلك أيضاً خلال انتخاب عضوي أمانة السر اللذين ترشح لهما آلان عون وهادي أبو الحسن وزياد حواط وفراس حمدان وميشال دويهي. فجأة انسحب الدويهي بسبب الاعتراض على «الآلية المذهبية». وسرعان ما التحق به حمدان بعدما اعتبر النائب هادي أبو الحسن أن «الظرف لا يحتمل الاستعراض». ولأن الترشّح كان «استعراضاً» فعلاً، انسحب حمدان لنائب وليد جنبلاط.
– الأحزاب السياسية (قوات وكتائب) التي انتقلت إلى ضفة «المعارضة» خرجت «لا مع السلطة بخير ولا مع الثورة بخير». رئيس مجلس «لا يُشبهها». نائب رئيس من تيار «لدود». وهيئة مكتب المجلس لا تضم نائباً عنهما. الكتائبيون الذين كانوا يتطلعون إلى شراكة مع «الثورجيين» للحصول على بعض المكاسب خابَ ظنهم. وتبددت أحلام «القوات» في بسط سلطتها وسطوتها على «نواب التغيير والمستقلين» فقد تبددت. «الربح» الوحيد الذي حقّقته «القوات» هو مقعد النائبة بهية الحريري الذي احتلته ستريدا جعجع!