مع تشكيل الحكومة الجديدة يترقب اللبنانيون الإجراءات التي ستتخذها لمواجهة التحديات الاقتصادية والمالية، بينما يعلم الخبراء والمعنيون بالشأنين المالي والاقتصادي أنّ الحلول بعيدة المنال، وأنّ سقف التوقعات يجب أن يكون منخفضاً بتحسّن سريع في المجالين الاقتصادي والمالي، فمنع الانهيار والإفلاس هما سقف معقول للمرحلة المقبلة حيث يستحق على لبنان سداد ديون خارجية بدفعات متعاقبة، عدا عن المبالغ المطلوبة لانتظام تلبية حاجات الاقتصاد والكهرباء والاستهلاك من مستوردات ضرورية كالمحروقات والدواء والقمح.
واقعياً، كل الأنظار شاخصة على قدرة لبنان على استجرار تدفقات نقدية ببضعة مليارات من الدولارات، سواء من الأموال المقررة في مؤتمر سيدر، أو من قروض وودائع تقدمها بعض الدول العربية والأوروبية وبعض الصناديق المانحة، وهذا باب أمل كبير لمنع سرعة الإنهيار وتأجيله، لمنح الجهات المعنية في لبنان فرصة التقاط الأنفاس لبرمجة الحلول والضوابط التي يجب الإقرار بكونها قاسية ويجب أن تكون متوسطة المدى، ما يعني استمرارها لعدد من السنوات، لتوفير الأمان اللازم خلال مرحلة إعادة التوجيه التي يحتاجها مخطط لا بد منه لإعادة هيكلة القطاع المصرفي وإعادة تنظيم حركة الأموال من جهة، وإعادة تصويب المسار الاقتصادي نحو نقطة توازن معقولة بين الاستيراد والتصدير من جهة ثانية.
واقعياً أيضاً، ولأنّ المال يشتغل بقواعد الفيزياء لا السياسة، حيث لا مكان للفراغ، فإنّ إجراءات صادرة عن المصارف بدون أي تغطية قانونية تفرض نفسها، ويعيش اللبنانيون مع سعرين لصرف الدولار بين الأسواق المصرفية وسوق الصرّافين، لكنّ استمرار هذه الإجراءات يشكّل مصدر خطر على صدقية النظام المالي والمصرفي، ومدى انضباطه بالعمل تحت سقوف قانونية واضحة، خصوصاً مع ما يتسرّب من معلومات عن استنساب وغياب للمعايير في تطبيق هذه الإجراءات، سواء بين مصرف وآخر، أو بين زبائن المصرف الواحد، ويلمس الناس هذه الاجراءات ويعترضون على قسوتها واستنسابيتها، سواء في ما يخصّ حقوق المودعين بالتصرف بودائعهم، أو بتحويلاتهم للخارج، وخصوصاً ما يخص القطاعين التجاري والصناعي لتمويل مستورداتهم، وبعضها ضروري للاستهلاك الداخلي، وبعضها شديد الضرورة لمنع إفلاس شركات تضم آلاف الموظفين والعمال، وبعضها حيوي لما يفترض أنه تطوير لقطاعات الإنتاج وفي مقدمتها الصناعة، سواء لتعويض النقص في المستوردات الواجب تخفيض نسبة الإعتماد عليها، أو لزيادة التصدير الذي يجب أن يشكّل المورد الرئيسي للعملات الصعبة والتوازن المالي.
في علم المال والمصارف مفردتان تختصران بعض المطلوب لكنهما لا تتمّان من دون تشريعات واضحة ومعايير دقيقة، هما «الكابيتال كونترول» و«الهيركات». والمقصود بالأولى التحكّم بسحب الودائع وتحويل الأموال، والمقصود بالثانية، إقتطاعات معينة من الودائع، بنسَب ووفق شروط تتيح إعادة ترسمل الأسواق، وترشيق المالية العامة المثقلة بالديون، وتوسيع قدرة المصارف على تلبية طلبات زبائنها بتخفيف حجم المطلوبات.
إذا بقي الأمر على حاله، فنحن ذاهبون نحو كارثة أوّل معالمها الفوضى المالية، وفقدان الثقة بالنظام المصرفي، وبدء الإفلاسات المتلاحقة بالمصارف، وصولاً لثورة اجتماعية احتجاجاً على ضياع المدّخرات، بينما يكون النافذون قد تمكنوا من تهريب أموالهم، وأغلبها ممّا تعتقد الناس أنه مال منهوب تطالب الحركات الإحتجاجية باستعادته.
الدور التشريعي للمجلس النيابي هو باستصدار حزمة قوانين تواكب وتنظم حالة الطوارئ المالية التي نعيشها فعلياً لكن خارج القانون، وهنا الحاجة ملحّة لأربعة أنواع من التشريع:
– قانون يتيح لمصرف لبنان بتعميم صادر عنه تحديد النسبة المئوية الشهرية والسنوية التي يمكن للمودع سحبها وكذلك الممكن تحويلها للخارج، وتغير هذه النسبة مع تغيّر سقوف أحجام ودائع أصحابها فتنخفض النسبة المئوية المتاحة كلما ارتفع حجم الوديعة، ووجهة استخدامهم للمبالغ المسحوبة أو المحوّلة، بين الاستعمال الشخصي والتمييز بين كون وجهتها للسياحة أو للطبابة والتعليم وفصله عن وجهة الاستعمال الاقتصادي، والأخذ بالاعتبار طبيعة النشاط الاقتصادي المُزمع تمويله ودرجة أهميته المالية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، وهذه المعايير ضمانة لمنع الاستنساب والمحسوبيات، وضمانة لتنظيم وقَوننة عملية التحكّم بالسحب والتحويل، لكنها ضمانة للتمييز بين حالاتها بمعايير تخدم قوة الاقتصاد ومتانة الوضع المالي، وتحقق الثبات في تطبيقها، بدلاً من قيام المصارف بها عشوائيّاً بمنطق يوم بيوم، للتخفف الراهن من ضغوط المودعين، والمودعون سيكونون أفضل حالاً مع معادلة ثابتة وقانونية تيسر تلبية حاجاتهم وفقاً لمعايير موحدة.
– قانون يتيح لمصرف لبنان بتعميم صادر عنه تحديد نسب الإقتطاعات الواجب إجراؤها على الودائع الكبيرة، التي تزيد عن سقف معين يتم تحديده، بالتناسب مع 3 عوامل: قيمة الوديعة، قيمة الفوائد المحققة لحساب المودع خلال مدة الإيداع ونسبتها من الوديعة، درجة ارتباط تراكم الوديعة وفوائدها المحققة بالاستثمار في سندات الخزينة الصادرة عن الدولة، واعتبار هذه الاقتطاعات ضرائب مستوفاة سلفاً عن سنوات قادمة بالنسب ذاتها، ويمكن أن تبلغ النسَب المستوفاة من الودائع المنتمية للفئة الأخيرة أي الودائع الكبيرة التي حققت تراكماً مضاعفاً لأصلها خلال سنوات طويلة بالاستثمار في سندات الخزينة، ما يستدعي اعتبار بعضها ديوناً مؤجلة يتم تسديدها مقسّطة على سنوات مقبلة بين خمس وعشر سنوات بعد انقضاء فترة سماح لا تقلّ عن ثلاث سنوات، والحقيقة التي لا يجوز أن يتغاضى عنها أحد هي أنّ هذا الإجراء يضمن تحويل القيمة المتبقية للمودع إلى قيمة حقيقية قابلة للتصرف، بينما هو في الحالة الراهنة صاحب حق لكنه حق ورقي قابل للزوال والاضمحلال.
– قانون يتيح لمصرف لبنان إعادة هيكلة القطاع المصرفي، الذي أظهرت الأزمة عيوبه، فحجمه المتضخّم عدداً يفيض عن حجم حاجة الاقتصاد بأضعاف، ولبنان يكفيه عشر مجموعات مصرفية محترفة ومهنية، تكون حصيلة دمج مبرمجة للمصارف وفقاً لمعايير الودائع والمؤونة ونسبة تحقيق معايير الإدارة الرشيدة للودائع والقروض ولشراء العقارات والموجودات، وعملية الدمج بما هي عملية ترسمل بطبيعتها، هي أيضاً فرصة للتخلّص من الطابع الشخصي والعائلي والمناطقي للعديد من إدارات المصارف لحساب إدارة مهنية واحترافية تَحتكم للمعايير ومضامين الملفات بعيداً عن العلاقات الشخصية والمجاملات والمحسوبيات، وهذه العملية ستتيح إلى جانبها إجراء مجموعة من العمليات التجميعية للممتلكات الفائضة وطرح فرص لاستبدالها بنسَب من ودائع كبار المودعين، ومثلها عملية تجميعية للقروض المتعسّرة التي حققت المصارف استرداد أصولها، وبقيت الفوائد التراكمية عليها عبئاً على إقفالها. وبالتالي، فتح فرص بيعها لأصحابها أو لصناديق لديون تنشأ بموجب القانون نفسه، بأسعار مغرية، ما يعيد هيكلة أموال المصارف بطريقة واقعية بعيدة عن التضخم الدفتري للودائع والديون، ومثلها أيضاً تتيح عملية تجميعية لسندات الخزينة، ومن خلالها فتح الباب لفرص مبادلتها بأسهم في شركات ومؤسسات القطاعات الإنتاجية للدولة بعد مأسستها وتهيئتها لهذه الغاية.
– قانون يتيح لوزراة المال تحويل مؤسسات الدولة المنتجة من قطاع الاتصالات والكهرباء إلى قطاعات سكك الحديد ومرفأي بيروت وطرابلس وقطاع الطيران وشركات الميدل إيست والكازينو وسواها، إلى شركات تمتلك امتيازات استثمارية لمدة زمنية تتراوح بين 25 و49 سنة، لمجالات عملها، وفتح الباب لبيع نسبة لا تزيد عن 49% من أسهم هذه الشركات المستثمرة لحق الدولة السيادي، سواء لقاء إيجاد شريك استراتيجي دولي في كل قطاع يتولى تمويل تطوير هذا القطاع وإدارته، أو لقاء سندات خزينة للمصارف وكبار المودعين، وفتح الباب لنسبة محددة لعموم اللبنانيين في ملكية أسهمها.
إنّ جوهر المشكلة المالية يتركّز على كون الدولة مدينة بما يفوق طاقتها على تحمّل فوائد الدين، لكنها تملك مصادر ثروة واستثمارات وفرص دخل، لا تستطيع استثمارها بسبب نقص قدرتها على التمويل، ونصف ديونها يعود للمصارف اللبنانية التي تملك القدرة عبر الشراكة لتحويل هذه القطاعات إلى مصادر دخل وثروة. وفي المقابل إنّ المصارف مدينة لمودعين كبار بنصف ودائعها بفوائد مرتفعة، لكنها تملك ديوناً باسترداد أصولها يمكن التخفيف منها بترسمل فعلي لا ورقي جيد، وتملك موجودات عقارية فائضة قابلة للتبديل بنسَب عالية من الوادئع، وما نحتاجه هو عملية متكاملة من إجراءات التحكم بالسحوبات والتحويلات تأخذ الحاجات والإمكانيات الواقعية وتوزان بينهما، عمليّاً لا ورقيّاً، وفي هذه الأثناء السير بإجراءات يرتضيها أصحاب الدين للحفاظ على نسبة منه قابلة للسداد بعدما حصلوا على فوائد عالية واستَردّ غالبهم أصل الدين وأكثر، وهذا ما يجعل الدين واقعياًّ لكنه يجعل الدخل واقعيّاً ايضاً. ومثلها اتخاذ إجراءات يرتضيها أصحاب الودائع الكبرى خصوصاً، بحيث يحصلون بدلاً من الودائع المتضخمة، لكن على الورق، على ودائع واقعية وممتلكات واقعية، وقدرة تصرف واقعية بنسَب تلبّي الحاجات الضرورية للسحب والتحويل. ومثلها إجراءات تطال المصارف بعددها وحجم ودائعها وحجم ديونها ومنها سندات الخزينة، فتعيد ترشيقها وتخفيف حمولتها الزائدة، وتتيح لها التحوّل من الاستثمار الريعي إلى الاستثمار المنتج، وتحويل الإقتصاد معها من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد المُنتج.
إنها دعوة ملحّة لورشة عمل مشتركة بين وزارة المال ولجنة المال النيابية يشارك فيها كلّ من مصرف لبنان وجمعية المصارف والهيئات الاقتصادية والنواب المهتمون وأصحاب الخبرة في الشأن المالي والاقتصادي، لتخرج بنصوص محددة للمطلوب ليتم اعتمادها من الحكومة بصيغة مشاريع قوانين، أو التقدّم بها من النواب بصيغة اقتراحات قوانين.