كانت الآلية العسكرية المدرعة تقف قبالة البوابة الرئيسية مقابل مبنى الأسكوا في وسط بيروت، عند أحد المداخل المؤدية إلى مجلس النواب في ساحة النجمة بعد فشل عقد الجلسة النيابية في 19 تشرين الثاني الماضي. فجأة تحركت ليظهر أن هناك بوابة عسكرية تم تلحيمها عليها. تقدمت لتفتح الطريق وتؤمن خروج موكب الرئيس نبيه بري. عادت المدرعة إلى مكانها وأعادت إقفال المدخل.
كان المشهد سورياليا. كان بعض المتظاهرين يقفون في الخارج يهتفون بشعاراتهم بينما بدا كأن المنطقة المحيطة بالبرلمان قد تحولت إلى سجن كبير ارتفعت الأسوار المحيطة به أكثر بعد التظاهرات الصاخبة حوله. لا يقتصر الأمر على المقر الذي يجتمع فيه النواب الذين يمثلون الشعب بل تعداه إلى السراي الحكومي والقصر الجمهوري. تلك المقرات الرسمية تحولت إلى ما يشبه السجون.
قصر بعبدا
عندما اشتد خطر الإجتياح العسكري لإزاحة رئيس الحكومة العسكرية العماد ميشال عون من قصر بعبدا بعد تهديد رئيس الجمهورية الياس الهراوي بإزالة “التمرد” بالقوة، فتح عون القصر أمام “الشعب”. ملأ “الشعب” ساحات القصر لحماية عون اعتقاداً أن هذا الأمر سيمنع الجيش السوري من القيام بعملية الإجتياح. قبل ليلة 13 تشرين الأول 1990 كان عون يعتقد أن مؤشرات ذلك الإجتياح غير جدية. خلت الساحات من الناس، وفي صباح ذلك اليوم حصل ما لم يتوقعه الجنرال.
بعد انتخابه رئيساً للجمهورية في 31 تشرين الأول 2016 فتح عون أبواب القصر مرة واحدة لـ”الشعب” وعاد وأقفله على نفسه. الرئيس الذي احتمى بالشعب ذات يوم بات يخاف من الشعب هذه الأيام. بالكاد يمكن أن يصل الشعب إلى مسافة تقل عن ثلاثة كيلومترات من قصر بعبدا. ابتداء من أحد المفارق على طريق الحازمية نحو الفياضية تكون آخر نقطة حيث يمنع التوغل بعدها أكثر. وعند الدعوة إلى التظاهر نحو القصر يتم إقفال الطرق من مسافات أبعد. لا تقاس المسافة عادة إلى القصر الجمهوري بالأمتار. المسافة التي باتت تفصل الرئيس عن الشعب باتت أطول.
عندما أقام الرئيس كميل شمعون في قصر القنطاري كانت الطريق تمر بجانب القصر تماماً. بوابة صغيرة ويتم الدخول. حتى في ثورة 1958 لم تكن هناك منطقة مقفلة أمام الناس. كان فؤاد شهاب يذهب بسيارته صباحاً من منزله في جونيه إلى مقره الرئاسي في صربا ويعود لينام في بيته. بعده حصل الأمر نفسه مع الرئيس شارل حلو. الرئيس سليمان فرنجية ترك القصر تحت القصف وصار قصره منزلاً في الكفور. الرئيس الياس سركيس عاد إلى قصر بعبدا على ضوء الشمعة وبقي المكان ساحة مفتوحة لم تقفل إلا في وجه المدرعات الإسرائيلية بعد اجتياح حزيران 1982.
ما الذي بدّل في الأحوال حتى بات الرئيس عون يخشى على عهده من شعبه؟ لماذا تحول الشعب الذي اعتبر عون أنه أتى إلى الحكم كي يحقق له أحلامه إلى شعب لا يؤمن بما وعده به الرئيس؟ عندما كان عون في باريس كان شعبه ينتظر عودته. في 7 أيار 2005 عاد واستقبله هذا الشعب في ساحة الشهداء، وعندما أقام في الرابية انتظره شعبه ليعود إلى قصر بعبدا. وعندما عاد إلى القصر أقفل على نفسه. كأن هذا القصر الذي تحصن فيه بين عامي 1988 و1990 تحول إلى سجن يحرسه أكثر من ألف عسكري وإن كان هذا القصر لا يزال المقر الرسمي للجمهورية ورئيسها، حيث يقف الوزراء معه ومع رئيسهم ورئيس مجلس النواب لالتقاط الصور التذكارية. بين القصر الجمهوري والقصر الحكومي و”القصر” النيابي لا تختلف الصورة كثيراً. ثمة خوف كبير من غضب الناس لا يمكن أن تخفيه الحواجز.
مجلس النواب
عندما ارتفعت جدران الباطون المسلح لتقفل بعض المداخل المؤدية إلى مجلس النواب بدأ الحديث عن “جدار برلين” في وسط بيروت. ذلك المقر الذي شهد على أهم أحداث الجمهورية منذ ما قبل الإستقلال لم يقفل أبوابه إلا في الحرب. كان بإمكان الناس، أيا كانوا، أن يتمشوا في ساحته ويقتربوا من بوابته وأن يدخلوا إليه بعد تدابير أمنية روتينية عادية ويلتقطوا الصور أمامه ويغادروا بسلام. تحت القصف تمّ انتخاب الرئيس الياس سركيس في 8 أيار 1976 قبل ستة أشهر من انتهاء ولاية الرئيس سليمان فرنجية عندما بات الوصول إلى القصر مستحيلاً أمنياً، تم اعتماد مقر آخر مكانه في قصر منصور عند معبر المتحف. ولكن كل ذلك لم يمنع استمرار الحياة البرلمانية. في ثكنة الفياضية تم انتخاب الرئيس بشير الجميل ثم الرئيس أمين الجميل. وفي مطار القليعات في عكار انتخب الرئيس رينيه معوض. وفي فندق بارك أوتيل في شتورة انتخب الرئيس الياس الهراوي. منذ عودة الحياة إلى مقر المجلس في ساحة النجمة وحلول الرئيس نبيه بري في موقع الرئاسة منذ العام 1992 لم يحصل أن تم إقفال المقر إلا بتدبير من الرئيس ولكن ولا مرة تم تصوين المنطقة بزنار من تدابير أمنية ومدرعات وأسلاك حديدية وبوابات وبمدافع نارية ومائية إلا بعد بدء ثورة 17 تشرين الأول الماضي. هذا المكان كما القصر الجمهوري يحتاج إلى أن تحميه قوة عسكرية كبيرة ليس من عدو وخطر إرهابي بل من الشعب. في السجون الأمنية عادة يقف الجنود خارج القضبان والمتهمون والمسجونون في الجهة الأخرى. عند جدران الحديد المحيطة بساحات النجمة تبدل المشهد. داخل القضبان يقف العسكريون متأهبين ولا يخرجون إلا لمطاردة المتظاهرين الغاضبين الذين يخرجون عن سلميتهم ويبدأون بممارسة طقوس رشق الحجارة والتعديات التي لا تشبه ما كانت عليه الثورة في أيامها الأولى. ولكن كل ذلك لا يلغي الصورة التي باتت تزنر البرلمان. هناك كان من المفترض أن يمثل النواب الشعب. ولكنهم باتوا يخافون أن يأتوا إلى الجلسات خوفاً من انتقام الشعب. ثمة من يعتبر أن حرمة المكان تبقى فوق كل اعتبار. ليس لأنه رمز الحياة الديموقراطية بل لأنه أيضاً مقر المؤسسة الرسمية التي يتربع على رأسها الرئيس نبيه بري. أي انتقاص من رمزية المكان يعني الإنتقاص من رمزية الرجل.
السراي الحكومي
عندما أعاد الرئيس رفيق الحريري ترميم السراي الكبير لتكون مقراً للقصر الحكومي ولرئيس الحكومة لم يكن يتصور أن هذا المكان يمكن أن يكون أيضاً سجناً كبيراً لأنه أراده مساحة لقاء مع الناس. عندما دخل الرئيس الجديد للحكومة الدكتور حسان دياب إلى السراي على السجاد الأحمر مستعرضاً قوة عسكرية أدت له التحية كما تقتضي البروتوكولات كان قد اتخذ قراره بالإقامة الدائمة مع عائلته في هذا المقر. يشعر رئيس الحكومة الجديد بأمان أكثر هنا في هذا المكان المحصن الذي تحميه قوة عسكرية كبيرة مؤللة وتحيط به الأسلاك الشائكة والعوائق الحديدية بينما لا يجرؤ على البقاء في منزله في تلة الخياط حيث قصده المتظاهرون أكثر من مرة.
أنه الخوف من غضب الشعب أيضاً. لم يتم تطويق السراي بهذه التدابير العسكرية ربطاً برئاسة دياب للحكومة. هناك عند تمثال الرئيس رياض الصلح أول رئيس للحكومة بعد الإستقلال، هناك عند هذا المدخل المؤدي إلى السراي حصلت أكثر من محاولة اختراق للدخول والإقتحام وإسقاط رئيس الحكومة والسراي. ثمة خوف كامن من أن تتكرر المحاولات.
تحصن الرئيس فؤاد السنيورة داخل السراي عندما حاصرتها الجماعات الغاضبة التي حركتها قوى 8 آذار، خصوصاً “حزب الله” للمطالبة باستقالته واستقالة الحكومة بعد اتهامات وجهت إلى قوى 14 آذار بالخيانة والتآمر خلال حرب تموز 2006. تحت الحصار أمّ المفتي السابق للجمهورية الشيخ محمد رشيد قباني الصلاة ليمنح المقر حصانة دينية. لم يقتصر الأمر على تجربة السنيورة. بعد اغتيال اللواء وسام الحسن رئيس شعبة المعلومات في 19 تشرين الأول 2012 وبعد مراسم الدفن والتشييع أطلقت الدعوات “يا شباب ويا صبايا يلّا يلّا عالسرايا” لإسقاط حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، ولكن القوى الأمنية نفسها التي منعت اقتحام السراي وإسقاط السنيورة منعت اقتحامها لإسقاط ميقاتي. هذه القوة لا تزال تقوم بالمهمة نفسها بعد دخول دياب إلى المقر الذي طلب الحريري أن ينقش فوق مدخله أنه “لو دامت لغيرك ما آلت إليك”. ولكن عندما دشن الحريري ذلك المكان لم يخطر في باله أنه سيكون سجناً. قبل اغتياله وعلى رغم أنه كان يشعر بالخطر على حياته لم يحوّل السراي إلى سجن وبقي ينتقل من هناك إلى قصر قريطم أو إلى قصر فقرا إو إلى مجلس النواب أو إلى خارج لبنان. كل ما أحاط به نفسه من تدابير أمنية لم يحل دون اغتياله في 14 شباط 2005 في قلب بيروت التي لم يكن يخشى التجول في شوارعها المفتوحة على العالم والناس. حتى قبل لحظات من اغتياله خرج من مجلس النواب إلى مطعم مجاور ليشرب القهوة فيه مع عدد من النواب والأصدقاء. كانت الساحات مفتوحة والطرقات مفتوحة وكانت الشاحنة المفخخة تنتظره.