Site icon IMLebanon

برلمان للرقابة والتشريع أم للمصارعة؟

 

ألزم الدستور اللبناني الرئيس المكلّف تشكيل الحكومة إجراء استشارات مع النواب قبل تشكيل وزارته، ولا ريب في أن المشترع الدستوري لم يقصد من هذه الاستشارات جعل الرئيس المكلف محل ابتزاز الراغبين بالاستيزار، كما هو حاصلٌ الآن، بحيث بدت الصورة أن كافة الكتل تطالب بحصصٍ وزارية، بما يحول تأليف الوزارة إلى عملية توزيع مغانم ومكاسب بين الكتل، وليس كما حددها الدستور بأن السلطة التنفيذية هي مكان إدارة مصالح الدولة وتطبيق القوانين.

وتنص المادة 65 من الدستور على أن مجلس الوزراء تناط به صلاحية «وضع السياسة العامة للدولة في جميع المجالات ووضع مشاريع القوانين والمراسيم التنظيمية واتخاذ القرارات اللازمة لتطبيقها»، و«السهر على تنفيذ القوانين والأنظمة والإشراف على أعمال كل أجهزة الدولة من إدارات ومؤسسات مدنية وعسكرية وأمنية…» إلخ…

إن هذا النهج في التعامل مع مسألة دستورية مصيرية هو تشكيل الحكومة، يخالف كافة المبادئ الدستورية وروح الدستور والأسس التي يرتكز عليها نظامنا السياسي، إذ عندما فرض الدستور استشارة النواب، إنما لمعرفة وجهة الوزارة وتكوينها، العناوين العامة للبيان الوزاري، الحاجات الملحة التي يقتضي على الحكومة مراعاتها، أما في مسألة اختيار الوزراء، فإن رئيس الحكومة يراعي مواقف الكتل والنواب ويحاول أن يلبي طلباتهم في التشكيلة الحكومية من دون أن يكون ملزماً بالاستجابة لها، إذا ما وجد أن هذه التلبية تضرّ بمبدأ التضامن الوزاري أو تخالف الدستور أو لا تؤدي إلى تسيير عجلة الدولة ومصالح المواطنين.

وما يؤكد صحة هذا التحليل أن الحكومة التي تجمع متناقضات مجلس النواب هي حتماً لن تكون حكومة متضامنة وسيكون من الصعب تطبيق مبدأ المسؤولية الجماعية للوزارة المنصوص عنه في المادة 66 من الدستور التي تنصّ على أن: «يتحمل الوزراء إجمالياً تجاه مجلس النواب تبعة سياسة الحكومة العامة ويتحملون إفرادياً تبعة أفعالهم الشخصية»، فكيف يصار إلى إعمال المسؤولية الجماعية عندما يكون الوزير مطلوباً منه التضامن مع زملائه وهو معهم على خصومة ويقف بمواجهتهم موقف الندية؟

ثمّ إن الحكومة التي تجمع المتناقضات كيف ستتخذ القرارات بالتوافق، حيث المبدأ أن مجلس الوزراء يتخذ قراراته توافقياً وإذا تعذّر ذلك فبالتصويت (المادة 65 من الدستور). إن القاعدة التوافقية في عمل مجلس الوزراء تعني التجانس بين مكونات الفريق الحكومي، وإن اشتراط التوافق مردّه استحالة إيجاد حكومة الحزب الواحد أو اللون الواحد، ولكن بالمقابل فإن التوافق يفرض التجانس بين أعضاء الفريق الحكومي، بحيث يكون الرئيس المكلف ملزماً باختيار الوزراء الذين يمكنهم العمل كفريق متضامن ومتوافق، وأما إذا عمد إلى تبني تشكيلة تضمّ المتناقضات، فهذا يعني السعي لإيجاد تركيبة وزارية تقود حتماً إلى فشل وزارته وإلحاق الضرر بالصالح العام.

وحتماً لا يمكن أن يُنسَب إلى الدستور هذا القصد عندما فرض على الرئيس المكلف استشارة النواب أو لاحقاً موافقة رئيس الجمهورية. إذ تبقى المسؤولية الأساسية لعملية التأليف بيد الرئيس المكلف.

إن التفسير الخاطئ لمعنى الاستشارات النيابية سيحول دون وجود كتل نيابية وازنة في مجلس النواب قادرة على ممارسة الرقابة على الحكومة، من موقع المعارضة، إذ في حالة تكوين مجلس الوزراء وفق معيار وزير لكل عدد من النواب، فإن هذا المعيار يؤدي إلى احتواء جميع الكتل الوازنة وبالتالي إفشال الرقابة البرلمانية وإجهاض خطط محاربة الفساد. إذ إن كل وزير محمي بعددٍ من النواب يمجّدون أداءه ويدافعون عنه باسم الانتماء إلى التكتل ذاته، ويصبح مجلس النواب حلبة مصارعة بين كتل تريد أن تبرر لهذا الوزير أو ذاك أفعاله، بحيث أن مهاجمة نائب لأحد الوزراء سيدفع فريق الوزير النيابي إلى مهاجمة الوزير الآخر لتحل التسويات بين النواب محل المراقبة والمحاسبة الفعلية، وفي ذلك إضرار كبير بمبدأ الفصل بين السلطات.

إن المدخل الأساسي للإصلاح يستوجب كبح جماح الاستيزار لدى النواب، وإقدام الرئيس المكلف على طرح التشكيلة المناسبة لإدارة مصالح الدولة وتطبيق القوانين تطبيقاً سليماً موافقاً للدستور ومبادئه الأساسية، وهذا ما سيتيح لمجلس النواب في حسن ممارسة دوره الرقابي الغائب منذ سنواتٍ طويلة.

(*) أستاذ جامعي