عض المجلس على الجرح وواجه الإرهاب برفض التعطيل. لكن ذلك أمر يصلح ليوم واحد فقط، لأن بعد ليل التشريع الطويل أمس، لم يعد أحد قادراً على التكهن بالزمن الذي يحتاجه المجلس لعقد جلسة ثانية، بعيداً عن التنافس في الدعوة إلى الرد على الجريمة بالتضامن وإعادة الهيبة إلى الدولة ومؤسساتها.
لكن، على ما يبدو، فإن الشلل خرج عن السيطرة، حتى شهد مجلس النواب ظاهرة غريبة تمثلت بمناقشة القوانين مع الأخذ بعين الاعتبار عدم وجود الحكومة، فطالب كثر بإقرار القوانين بدون الحاجة إلى مراسيم تطبيقية تقرها الحكومة، حتى لا يتعرقل تنفيذها. فات هؤلاء، ومنهم الرئيس فؤاد السنيورة، أن القوانين لها طابع الشمولية، وأنها نظرياً يفترض أن لا تنطوي على منفعة أو حالة آنية.
هذا الخطاب الإلغائي للحكومة استفز رئيسها، فتوجه إلى النواب بالقول: كل كلمة ونصف تقولون لا يوجد حكومة.. أتمنى على جميع الزملاء أن لا تكون كل كلمة لهم تهكماً أو شماتة. كما أكد على أهمية إعادة تفعيل مجلسي النواب والوزراء.
«التيار» يكابر
برغم أرقام الشهداء التي تزايدت أمس، لا يبدو أن هذه الرغبة ستتحول إلى أمر واقع. التسوية التي أنتجت الجلسة التشريعية انتهت مع انتهائها عند العاشرة والنصف من مساء أمس. اليوم سيكون يوم ميزان الحسنات والسيئات. لكن بدا واضحاً أن «التيار» أراد مواجهة الهزيمة السياسية، بالمكابرة على الجرح. لم يعترف بفشله في حياكة التسوية، فركز على قانون استعادة الجنسية الذي أيدته كل الكتل، ربما لمعرفتها أنه لن يكون له مفاعيل عملية. قانون الانتخاب، الذي كان مطلباً قواتياً وعونياً، صار في خبر كان. وإذا كان الرئيس سعد الحريري قد التزم بأنه لن يحضر أي جلسة تشريعية لا تُخصص لقانون الانتخاب، فإن هذا الموقف لم يعزز حظوظ إقرار قانون انتخابي جديد بقدر تعزيزه حظوظ إبعاد التشريع عن الواجهة. وهو ما أكده النائب وليد جنبلاط أمس، بتوقعه أن تكون الجلسة التشريعية المقبلة «محكومة بالفشل سلفاً لأن الاتفاق على قانون الانتخابات متعذّر، وبالتالي يُمكن الاطمئنان إلى أن كلفتها لن تصل إلى مليارات الدولارات»، في إشارة منه إلى المبالغ التي أقرت في الجلسة الحالية.
حتى اقتراح القانون المتعلق بتوزيع حصة البلديات من الخلوي مباشرة من قبل وزارة الاتصالات لم يجد طريقه إلى الإقرار، كما أمل «التيار». لا بل أكثر من ذلك، كاد الأمر أن يتسبب بمشكلة في الجلسة، بعدما هدد النائب أحمد فتفت بتطيير النصاب إذا طُرح الاقتراح على التصويت. كانت ملاحظته التقنية تشير إلى أن التوزيع المطروح يحرم بلديات الأطراف من الحصول على حصة من الأموال، لكن السياسة كانت غالبة، بعدما بدا واضحاً أن كتلاً كثيرة لا مصلحة لها في إعطاء البلديات استقلاليتها المالية، ربما لأن الحكومة لن تتمكن عندها من محاصرة هذه الأموال بحجة ديون البلديات لـ «سوكلين».
وبعد نقاش مستفيض، لخص الوزير علي حسن خليل الخلاف بثلاث نقاط: طريقة الاحتساب والجهة التي توزع الأموال والجهة التي تحوّل الأموال إليها، أي البلديات أم الصندوق البلدي المستقل.
حسمها الرئيس تمام سلام، معلناً عدم الحاجة إلى القانون، ما دام المرسوم موجوداً. فكان المخرج بالاتفاق على توقيع المرسوم خلال أيام، وهو مرسوم يتعلق بتوزيع الأموال الحالية، بينما القانون كان ليرسخ التوزيع بشكل دائم.
لبنان يودع «أيام العز»
حان وقت القوانين المالية.. علة عقد الجلسة. انقسم المجلس إلى معسكرين. واحد يمثل المصارف ومصالحها، مهما أكثر من الحديث عن مصلحة البلد التي ستتهدد إذا مُسّ أي بند، كما لو أنه يستمد قداسة ما من توصيات دولية غير ملزمة. والثاني يسعى جاهداً إلى تقليص السلطة المطلقة التي تتمتع بها المصارف وتجعلها تتحكم برقاب اللبنانيين. المعكسر الثاني كان فدائياً، فبدا كأنه يسعى إلى انتزاع بعض المكاسب من فم التنين. لكن الأهم أن المعسكرين اتفقا على أمر واحد: انتهى عصر السرية المصرفية التي رافقت أيام عز القطاع منذ العام 1956 إلى اليوم. وأكد النائب أنور الخليل ذلك بإشارته إلى ان هذه القوانين بمثابة «الحبوب التي أعطيت للموت التدريجي للسرية المصرفية».
الخليل لم يكن وحيداً. وقف الوزير بطرس حرب ليعلن أن سلاح الازدهار المصرفي لم يعد بيد السرية المصرفية، لأن صلاحيتها انتهت، بعدما صارت الأولوية هي لإدخال لبنان في الحركة المالية العالمية.
الرئيس فؤاد السنيورة دعا إلى الاعتراف بأننا نعيش في عالم آخر مختلف عن العالم الذي كنا نعيش فيه قبل عدة عقود. ولمزيد من التطمين، فإن «السرية المصرفية مستمرة على من لا شبهة عليهم»، قال. لكن المفارقة أن القضاء ليس هو الجهة الصالحة للتحقق من الشبهة، بل المصرف المركزي وحاكمه الذي وصفه النائب نواف الموسوي بـ «حاكم لبنان». ولأن السنيورة مؤمن أن العالم الجديد لا يحتمل إلا البصم، فقد دعا إلى إقرار القوانين المالية الثلاثة، بمادة وحيدة.
وإذا كان ابراهيم كنعان سار بالمنحى ذاته، داعياً إلى الالتزام بتوصيات «غافي»، فإن ثمة في المقابل من خرج ليقول إن هذه التوصيات ليست نصاً منزلاً، بل يفترض «تكييف الإجراءات المطلوبة دولياً مع مصالح اللبنانيين»، كما قال النائب علي فياض.
في مشروع نقل الأموال عبر الحدود، كان النقاش بين ضمان أن لا يتوحل القانون إلى سكين على رقاب المغتربين، كما تخوف النائب أنور الخليل وبين من يتخوف من أن يكون موضع تساؤلات دولية.
15 ألف دولار هو المبلغ الذي يستطيع أن يدخله الفرد عبر الحدود اللبنانية في الاتجاهين، من دون تصريح. إذا تخطى المبلغ ذلك، فسيكون على صاحبه التصريح عن قيمته ومصدره وهدفه ووجهته.. على أن يُسجل ذلك في قاعدة بيانات لدى السلطات الجمركية. كان الخلاف على هذه النقطة تحديداً، إذ توقف فياض عند الغاية من تسجيل قاعدة بيانات لمن لا يخالفون القانون، كما تخوف من أن تصل هذه القاعدة إلى جهات مجهولة. رفض السنيورة الاقتراح لأن قاعدة البيانات تستعمل لاحقاً بكلياتها في الإحصاءات المركزية، مكتفياً بالموافقة على سرية هذه البيانات.
أكثر من ساعة أخذتها المداولات بشأن هذا القانون، قبل إقراره بالاتفاق على أن تكون قاعدة البيانات سرية وأن يحق لكل شخص مهما كان عمره الاستفادة من إمكانية تمرير الـ 15 ألف دولار، أضف إلى ذلك أن تكون الصلاحية للمجلس الأعلى للجمارك وهيئة التحقيق الخاصة معاً بإشراف وزير المال.
ولأن الرئيس السنيورة يريد التسريع بإقرار هذه القوانين، اقترح على وزير المال مخالفة القانون وتكليف أحد الموظفين بعضوية المجلس، غير القادر على الاجتماع بسبب تقاعد أحد أعضائه، بحجة تسيير المرفق العام. لكن خليل لم يتأخر بالإجابة: آسف دولة الرئيس لن أخالف القانون.
تقليص نفوذ المصرف المركزي
قانون تبييض الأموال لم يكن مصيره أفضل من مصير الذي سبقه. نقاشات حادة، عنوانها تشذيب سلطة المصرف المركزي. وبالفعل، نجح الموسوي في قيادة هذه المعركة، حارماً المصرف المركزي من سلطته المطلقة في الحجز على الأموال، وتحديدها بفترة ستة أشهر قابلة للتمديد مرة واحدة، مع دور رئيسي للنيابة العامة التمييزية إن كان بمرجعيتها في البت باعتراضات المتضررين، بعدما كانت وسائل الاعتراض غائبة في السابق، أو من خلال إلزام المصرف التنسيق معها قبل تمديد فترة الحجز على الاموال.
الحرب المستقبلية ـ العونية لم تتوقف عند قانون توزيع عادئات البلديات بل طالت أيضاَ المشروعين المتعلقين بالحصول على قروض لتمويل مشاريع كهربائية. وبالرغم من موافقة «المستقبل» على إقرار المشروعين، إلا أنه حصل في المقابل، على تعهد بتنفيذ القانون 181 المتعلق بإنشاء هيئة ناظمة للقطاع وتعيين مجلس إدارة للكهرباء والتواصل مع الصناديق العربية لإنشاء معمل البداوي 3 والزهراني 2، كما تقرر تمديد العمل بالقانون الذي يسمح للقطاع الخاص بإنتاج الكهرباء.