اختيار اللجان النيابية، إلا في ما ندر، يأتي خبط عشواء. الاعتبار الأساس ليس المعرفة والتخصص، بل الانتماء المذهبي والسياسي. لجان تتوزع وفق قاعدة ستة وستة مكرر، والنتيجة في أغلب الأحيان: «خبيصة» تشريعية!
قبل أكثر من عامين، شعر أعضاء لجنة الإدارة والعدل، أثناء مناقشتهم القانون المتعلّق بقاعدة بيانات البصمات الجينيّة، كما لو أنهم جاؤوا من كوكب آخر. يقول أحدهم إنه وغالبية زملائه لم يفقهوا من القانون إلا اسمه وعدد صفحاته، ما استدعى طلب خبراء متخصصين لشرحه كي يدرك النواب ما الذي يتحدّثون عنه. وعندما طرح مشروع قانون لتعديل قانون الإرث لغير المحمديين أمام لجنة الدفاع والداخلية والبلديات النيابية، العام الماضي، جلس أعضاء اللجنة وكأن على رؤوسهم الطير.
بدا الأمر وكأنهم يشاهدون مسلسلاً تركياً غير مترجم، لولا وجود ممثلين عن عدد من الطوائف ممن تولّوا «الدبلجة» لتفادي أي خطأ يتناقض مع تشريعات هذه الطوائف. والحال هي نفسها في غالبية اللجان النيابية التي يفتقد أعضاؤها «المعرفة» المطلوبة للغوص في تفاصيل مشاريع القوانين الموجودة بين أيديهم، فيهرف معظمهم بما لا يعرف!
صحيح أن اللجان النيابية هي المطبخ الفعلي لمشاريع واقتراحات القوانين، وتعد الإطار الذي تتجسّد فيه آلية العمل التشريعي الصحيح، الا أن اللبنانيين «شقلبوا» الآية، ففصّلوا اللجان وفقاً لاعتبارات طائفية ومذهبية، وليس وفقاً للاختصاصات أو للمؤهلات العلمية للنائب… إلا في ما ندر. هكذا، يمكن أن يرأس نائب درس الحقوق وتخصص في القانون المدني لجنة الدفاع، ونائب متخصّص في كلّية التربية لجنة الزراعة، وثالث درس العلوم الاقتصادية لجنة البيئة…
بالنظر إلى اللجان النيابية الست عشرة الحالية، نادراً ما راعت الانتخابات الداخلية في المجلس اختيار رؤساء ومقررين «يشبهون» لجانهم بما يمكّنهم من فهم المشاريع الموجودة بين أيديهم. صحيح أنه ما من نصّ قانوني يفرض أن يكون أعضاء لجنة الصحّة، مثلاً، من الأطباء، أو أعضاء لجنة الإدارة والعدل من المحامين، إلا أن هذا الخلل أدى إلى تضاؤل القدرات التشريعية للمجلس. فعلى الرغم من الزيادة الملحوظة في عدد اللجان، نسبة إلى العقود الماضية، إلا أن المستوى التشريعي تراجع عما كان عليه في السابق.
غالبية اللجان يفتقد أعضاؤها «المعرفة» المطلوبة في مشاريع القوانين الموجودة بين أيديهم
ولعلّ السبب الرئيسي في هذا التراجع، بحسب مصادر برلمانية، هو «تلزيم» النواب لجاناً لا علاقة لهم بمجال اختصاصها. والأنكى أن مراعاة التوازنات الطائفية والسياسية، حتّمت أحياناً «اختراع» لجان على قياس نواب محددين، كما حصل مع النائبة السابقة غنوة جلّول التي أنشئت لجنة تكنولوجيا المعلومات لأجلها عام 2002، فضلا عن تقسيم رئاسات اللجان بالتساوي بين المسيحيين والمسلمين، وحتى بين كل من المسيحيين والمسلمين، ما يجعل اختيار عضوية النواب وفقاً لمؤهلاتهم العلمية أمراً صعباً. وهذا ما يؤدي الى حضور «جسدي» محض لبعض النواب في بعض اللجان، من دون أي مشاركة في النقاش، فيما يكاد يكون رئيس اللجنة والمقرر وأمين السرّ أكثر الحضور حركةً وكلاماً.
«على خطى أوروبا والدول المتقدمة»!
وفي خطوة لتطوير العمل التشريعي، ينفّذ مجلس النواب، برعاية الاتحاد الأوروبي، مشروعاً تحت عنوان «دعم أعمال المجلس النيابي» يتضمّن استقدام خبراء أجانب يعملون لمدّة عامين في مكتب جُهّز لهم في ساحة النجمة، بهدف تحسين العمل التشريعي. وقد بدأ العمل بالمشروع الذي يُشرف عليه الرئيس نبيه بري منذ أشهر. ويقول نواب مطلعون إن المشروع يركّز على معايير الجودة التشريعية وكيفية إدارة اللجان، ويتضمّن تواصل الخبراء مع رؤساء اللجان لمتابعة أعمال لجانهم. ومن مميزات المشروع تدريب أمناء السرّ على نموذج موحّد لكتابة التقارير، بدلاً من أن يعتمد أمين السرّ داخل كل لجنة صياغة التقرير وفق أسلوبه الخاص. وسيجري تدريب رؤساء اللجان على برمجة الجلسات عبر تحديد روزنامة خاصة للجان. فبدلاً من أن يدعو رئيس اللجنة أعضاءها وفقاً لمزاجه أو وقت فراغه، يُعتمد يوم محدد اسبوعياً لانعقاد الجلسة، كما يتضمن المشروع التركيز على برمجة المشاريع ومناقشتها بحسب تاريخ ورودها لا بما يناسب مصالح النواب أو اختياراتهم. وهو سيزوّد النواب بـ «تطبيق يتعلق بتحديث المعلوماتية»، بحيث يستطيع كل نائب الاطلاع على كل التطورات أو المعلومات في شأن القوانين التي تناقَش. وتندرج ضمن إطار سفر النواب ومشاركتهم في جلسات تدريب في البرلمانات الدولية. ولأن قلة من النواب تعرف الصياغة التشريعية التي ينبغي أن تكون إحدى مميزات رجل التشريع، من خلال تحويل السياسات العامة إلى قوانين متخصصة، أنشئ داخل المجلس النيابي قسم للدراسات عُين فيه أربعة قانونيين خضعوا لدورات تدريبية، مهمّتهم مساعدة النواب (الذين لا يعرفون) على كتابة المشاريع، علماً أن كثيرين من هؤلاء لا يفقهون الفارق بين القانون ومشروع القانون!
اللجان: من أربع الى 16
بدأ عمل اللجان النيابية منذ عام 1922، وهي تتجدّد سنوياً، مع بعض الانقطاع في السنوات التي علق فيها الدستور وحلّ المجلس النيابي (1939-1943)، أو خلال فترة الحرب (1975- 1990). وقد بدأ عمل اللجان في المجلس بأربع (المالية، العدلية والإدارة العامة، الأشغال العمومية، الصحة والمعارف)، وزاد عددها مع تطور الحياة البرلمانية وتوسعها، وازدياد اختصاصات المجلس، ليرسو على ست عشرة لجنة (على سبيل المثال، الدفاع والتربية والزراعة والاقتصاد والخارجية)، علماً بأن لجاناً كانت موجودة قبل التسعينيات أُلغيت مثل: النظام الداخلي، العرائض والاقتراحات، التصميم العام، الأنباء والبريد والبرق والهاتف. وبعد أن كان عدد أعضاء كل لجنة لا يتجاوز خمسة نواب أو ستة، وصل بعد التعديلات التي أقرّها المجلس عام 2003 إلى 17 نائباً، علماً بأن اللجان غير متساوية في عدد أعضائها الذي يتراوح بين 12 و17 عضواً.