ليس ما يبدو نوعاً من “برج بابل سياسي” عشية الإستشارات النيابية الملزمة سوى إنعكاس للعجز أمام قوة الحقائق. ومن السهل الحديث عن كون الخيارات المختلفة هي إما دون مستوى التحديات، وإما خارج قدرة الواقع على تحمله. لكن من الصعب الهرب من فرصة لأن يتحول يوم الإستشارات الى يوم الإمتحانات للجميع.
إمتحان العهد وتياره في مادة العناد أو التخلي عن تطويع كل شيء في خدمة عهد لن يأتي. إمتحان “الثنائي الشيعي” في مادة التحكم باللعبة السياسية فرضاً ورفضاً أو الإحتكام الى دروس التاريخ والتعلم من تجارب القوى التي جربت الهيمنة لئلا ينطبق عليه قول الإمام علي “ما أكثر العبر وأقل الإعتبار”. إمتحان القوى السيادية في مادة السياسات التي تتطلبها إستعادة السيادة وما ساد المرحلة الماضية من أخطاء وخيارات سهلة وتفاهمات ضارة. وإمتحان قوى التغيير التي جاء بها ما بقي من “ثورة 17 تشرين” وغضب الناس على التركيبة السياسية كلها، في مادة التغيير والقدرة على توظيف الفوز الإنتخابي في تحقيق الممكن من التغيير عبر إعطاء الأولوية لنقاط الإتفاق على نقاط الخلاف مع القوى السيادية.
ذلك أن ما حدث في انتخاب هيئة البرلمان أعاد التأكيد أن الأكثرية من دون تفاهم على برنامج وقيادة أو تنسيق ليست أكثرية. والدرس كان على الجدار، وهو قول أرسطو: “التعددية ليست العدد بمقدار ما هي نوعية المتعددين”. والدرس الآخر الذي يعني الهرب منه تحت عنوان “النقاء السياسي” خدمة للممسكين بالسلطة، هو أنه لا أحد يخوض الإنتخابات ليجلس في مقاعد المعارضة بل لأخذ دور في السلطة وتحقيق برنامج، فالمعارضة ممكنة من خارج البرلمان. ولا شيء في لبنان اسمه التغيير بالضربة القاضية.
والتحدي المباشر المطلوب مواجهته في الموضوع الحكومي تكليفاً وتأليفاً ثم انتخاب رئيس للجمهورية هو إنكار ما حدث من تغيير. شيء من تقليد سلبي يقوم به سياسيون صغار لمبدأ إيجابي مارسه قائد كبير هو الجنرال ديغول. كان ديغول يقول: “تصرفت ولا أزال في السياسة على طريقة: كما لو أن. كما لو أن فرنسا ربحت الحرب العالمية الثانية، كما لو أن الفرنسيين والألمان أصدقاء”. والسياسيون الصغار هنا يتصرفون كما لو أن الإنتخابات لم تحدث. كما لو أن لبنان ليس في هاوية أزمات عميقة. كما لو أن المحكمة الدولية لم تصدر الحكم. كما لو أن العهد ليس في نهايته. كما لو أن كل سني مرشح لرئاسة الحكومة وكل ماروني مرشح لرئاسة الجمهورية، ولكن ليس كل شيعي مرشحاً لرئاسة المجلس النيابي. كما لو أن المهمة بعد أي إنتخابات ليست إعادة تكوين السلطة على ضوء الموازين السياسية الجديدة بل إعادة تركيز المواقع للنافذين.
يقال: “الذكي يتعلم من أخطائه، والعبقري من أخطاء سواه”. أما نحن الشطار، فإننا لا نتعلم، “لا من أخطائنا، ولا من أخطاء سوانا”.