الإعلان عن مواعيد الاستشارات النيابية الملزمة عشية الذكرى الأولى لانفجار المرفأ الزلزالي، لم يحقق مناخات الارتياح والتفاؤل المنشودة، سياسياً وشعبياً، لأن أجواء الحذر والقلق بقيت مسيطرة على الشارع، الذي لم يعد يثق بقرارات السلطة وجديتها ومصداقيتها، في تنفيذ الخطوات التي تقرر اتخاذها، بسبب تشرذم وتناقض أطرافها، وعجز مواقع القرار فيها عن السير بالمعالجات والإصلاحات الموعودة.
الانطباعات السائدة عند اللبنانيين، كما عند الفرنسيين وغيرهم من الأصدقاء المساعدين، أن الحكم الحالي يحاول علاج سرطان الانهيارات المستشرية في الجسد اللبناني بحبات الأسبيرين، من دون أن يكلف المسؤول نفسه عناء الخوض في العلاجات الجذرية للأمراض اللبنانية المتفاعلة على أكثر من صعيد، والتي أوصلت البلاد والعباد إلى الحضيض، فيما الأطراف السياسية متمترسة خلف مصالحها الحزبية وحساباتها الإنتخابية.
من هنا تتقدم التوقعات السلبية على غيرها من الاستنتاجات الأخرى، حيث تتحفظ الأولى على ما يتردد حول سرعة التأليف، بعد التكليف، على خلفية ردود الفعل الأولى غير المشجعة التي ظهرت من فريق العهد، وخاصة رئيس التيار الوطني النائب جبران باسيل، الذي فاجأ الحليف قبل الخصم بتبني ترشيح نواف سلام، ومعارضته لنجيب ميقاتي، ولأي مرشح من رؤساء الحكومة السابقين.
وأعقب باسيل هذا الموقف بالإعلان عن اتجاه كتلته النيابية المسيحية الأكبر، إلى عدم تسمية أحد في الاستشارات الرئاسية، واحتمال امتناعها عن منح الثقة في مجلس النواب للحكومة العتيدة. الأمر الذي كشف حقيقة نوايا فريق العهد من تكليف ميقاتي، واستمرار محاولات الإتيان بمرشح حليف، أكثر طواعية، وأسرع تجاوباً مع توجهات هذا الفريق، خاصة وأن الانتخابات النيابية على الأبواب، هذا في حال حصولها في موعدها طبعاً، وأن الاستحقاق الرئاسي الذي يستعد له باسيل على مدار الساعة، أصبح أدنى من قوسين، وقد يتطلب تغييرات لا بد منها في التكتيكات السياسية والتحالفية الراهنة.
أما طرح اسم نواف سلام فهو من باب المناورة الساذجة، لعلم باسيل المسبق أن حزب الله وحلفاءه في الداخل والخارج لم يتخلوا عن الفيتو الذي وضعوه على اسم القاضي في محكمة العدل الدولية منذ طُرح قبل أكثر من سنة، وأن ورقة المرشح الحقيقي للتيار الوطني ستبقى طيّ الكتمان بانتظار الفرصة المناسبة لكشفها.
هذه المعطيات توحي وكأن المراوحة في دوامة الانهيارات مستمرة، رغم تداعياتها المدمرة على البشر والحجر، وأن التكليف، ولو حصل بسرعة، لن يفتح باب التأليف الذي ما زالت أبوابه رهينة موقف فريق رئيس الجمهورية في التسهيل أو التعقيد، قياساً على مدى تجاوب الرئيس المكلف مع مطالب الاستئثار بالتمثيل المسيحي، وبمفاتيح الوزارات الدسمة.
ولكن هل يتحمّل الرئيس نجيب ميقاتي وزر التكليف وضغوطه المختلفة أشهراً مديدة، كما فعل الرئيس سعد الحريري، أم أنه يسلك طريق السفير مصطفى أديب الذي قدّم اعتذاره ورحل إلى «مملكته» الديبلوماسية في برلين، بعدما تبين له استحالة تشكيل «حكومة مهمة» في غابة المنظومة السياسية الفاسدة؟
يبدو أن الرئيس ميقاتي لا يريد أن يُفرّط بما وصلت إليه زعامته في طرابلس، خاصة بعدما خلت الساحة له، إثر التراجع الملحوظ في جمهور الحريري من جهة، وانسحاب منافسه اللدود محمد الصفدي من الحياة السياسية، حيث من غير المستبعد أن يحوز على أكثرية التمثيل النيابي في طرابلس وقضائها في الانتخابات المقبلة. وهذا يعني عدم حماسه للبقاء طويلاً في مربع الرئيس المكلف، رهن المناكفات والكيديات الضيّقة، وتفضيله حسم أمر التكليف باكراً: تأليفاً أو اعتذاراً، حتى يتسنى له قطف الزعامة الطرابلسية في زمن الفراغ القيادي في عاصمة الشمال.
ad
ويبقى من سخرية القدر مع هذه السلطة الفاشلة والعاجزة، أن تحل الذكرى الأولى لكارثة مرفأ بيروت، من دون أن تتمكن: لا من تأليف حكومة ينتظرها العالم لتقديم الدعم والمساعدة للوطن المنكوب، ولا من كشف خفايا الانفجار وحقيقته ومسبباته، ولا في إعلان ملابسات صفقة الأمونيوم وتخزينها، ولا طبعاً في الحد من الانهيارات المتلاحقة، والتي أعادت لبنان إلى العصر الحجري، بعد فقدان الكهرباء والماء والدواء، والسلع الغذائية والمحروقات وخدمات الإنترنت والاتصالات، وتلاشي مقومات الدولة العصرية والأمنية القادرة على حفظ استقرارها وسلامة مواطنيها.
كل ذلك والطبقة السياسية تعيش في عالم الفساد والسرقات والنهب، والناس تعاني من الذل والفقر والمرض، وتتلوى في نار جهنم من البطالة والجوع، والبلد الذي كان مصدر إشعاع في الإقليم وهمزة وصل بين الشرق والغرب، أصبح بسبب الإدارة السياسية الفاشلة، بلد العتمة والتخلف والإفلاس.
فمَن يستطيع إنقاذ لبنان من العصر الحجري…
وهل الحكومة العتيدة قادرة على مواجهة هذا التحدي المصيري الكبير؟