Site icon IMLebanon

بعد الإستشارات النيابية: يكون لبنان أو لا يكون

 

ذهب الرئيس ماكرون في «حملة التوبيخ» التي سبق أن أطلقها بحق المسؤولين اللبنانيين عقب فشل محاولة تأليف حكومة الرئيس مصطفى أديب، إلى أن منظومة الحكم في لبنان يتولاها ما لا يزيد على عشرة زعماء، وقد قصد بهم اولئك المتولّين لرئاسات الأحزاب والمناصب الكبرى في بلادنا التي تم نهب خيراتها وأرزاق أهلها ولقمة عيش مواطنيها، وطاولتها المآسي الكبرى وفي طليعتها، إنفجار الرابع من آب ونتائجه الكارثية وما تلاه من انفجارات وحرائق متفرقة موزعة، بحكم الإفتعال او بحكم القضاء والقدر» في أماكن مختلفة من هذا البلد المنكوب.

بعد تدهور الأحوال إلى حدود هدّدت لبنان بالزوال «وفق تصريح سابق لوزير الخارجية الفرنسي، وقيام الرئيس ماكرون» بزيارتين إلى لبنان، أطلق من خلالهما وساطة فرنسية حدّد فيها خارطة طريق لتمكين البلد الممزّق من النهوض من كبواته المتلاحقة التي أنهكت سلامته وهددت وجوده وديمومته، وما تلا ذلك من أحداث أهمها ما لحق بحكومة الرئيس مصطفى أديب من عراقيل ورجوع عن مواقف المسؤولين اللبنانيين التي التزموا بها في القصر الجمهوري وفي قصر الصنوبر، متجاهلين خطورة الأحوال العامة التي ترك بها المتراجعون، وطنهم وأهله ووجوده ومصيره، غارقين بأثقال الإفلاس وشتى أنواع المخاطر اللاحقة التي تجلّى بعضها بتصاريح للمسؤولين عن المال العام مما سيؤدي لرفع الدعم عن عناصر الحياة الأساسية من بلد طغى عليه حال الجوع والعوز والمرض والإنكفاء المستفحل عن مواقع العيش الكريم، وبعد تراجع المسؤولين الرئيسيين عن التزاماتهم تجاه حكومة «المهمة» وبعد تركهم للأحداث تتدهور إلى قعر ما بعده قعر، تبين للبنانيين جميعا حجم المسؤولية السلوكيّة والأخلاقية المنغمسة في إطار من الفساد الذي لا مثيل لجرأته ووقاحته في العالم كله، وتجاه هذا الواقع المتردي والمتهالك، الذي لم يفلح الوزير جبران باسيل خلال تصريحه يوم الثلاثاء المنصرم المتعالي في نبرته ومغالطاته وشعبويته، والمغرق من مهاجمة أقرانه من الزعماء والمسؤولين وكيل الإتهامات لهم، وقد حاول أن يخرج نفسه وحزبه وعهده من جملة المسؤوليات الجسام التي تتحملها الطبقة الحاكمة، وكأنه الوحيد الذي لا يشكو من أي مأخذ وأي اتهام. كما لم نجد في هذه الوضعية غريبة الأحوال والأطوار والواقع المتردي، أي اهتمام مسؤول ولو بالحدود الدنيا، وأية رفّة جفن تستهول حال الإنهيار المأساوي القائم والذي بات يقاس استفحال تدهوره بمرور الوقت، يوما بعد يوم، بل وساعة بعد ساعة، فبتنا جميعا أمام وطن ومواطنين تدفع بهم الظروف والأحوال الرديئة، إلى دخول منطقة العناية الفائقة التي تحجب عنهم مخاطر الغيبوبة الكاملة والموت الشامل، لوطن يكاد أن يزول نتيجة لفسادهم الذي لا يرتوي ولا يشبع، وقد أقبل إلى هؤلاء جميعا، «متطوع» أخذ على عاتقه توظيف إمكاناته الموروثة وعلاقاته العربية والدولية، وبصورة خاصة، على صلته بفرنسا وبالمبادرة الفرنسية التي أسفرت عن إطلاق «المهمة الإنقاذية» التي يبدو أنها قد أعطت له ردحا من الزمن الثمين والمهدّد بالمرور والإنتقاص المستمر من إمكانيات الإنقاذ والخلاص المحددة أسسها ومكمن العون العربي والدولي فيها ونواحي الخلل والفساد التي ينبغي تخليص الأوضاع العامة منها في أقرب وقت ممكن، وقبل فوات الأوان، فكانت قفزة شجاعة من الرئيس سعد الحريري، إلى مخاطر الحكم والمسؤولية العامة في هذه الايام التي تكاد الاّ تسمح لأي مسؤول بالمغامرة بواقعه ومستقبله السياسي، إنطلاقا من كونه الأول والأبرز بين مسؤولي الجهات التي يمثل، وهو يقوم بذلك مع علمه الكامل بأن ثغرات عديدة تطاول وضعه العام نتيجة لممارساتٍ سابقة أدّت، رغم شجاعة إندفاعاتها ونواياها الطيبة، إلى كثير من السلبيات والتراجعات التي كان لها أثرها السلبي الواضح في أوساطه، فكانت التسوية السياسية التي تلت ما يقارب العامين والنصف من التعطيل العام الفارض والمفروض، وكانت الإنتخابات النيابية التي أدت إلى ما هو معروف ومكشوف من وضعية التمثيل الوطني والسياسي العام وإلى تحكّم، حزب الله بصورة متمادية بكل مفاصل الحياة العامة التشريعية والتنفيذية والإدارية، ومع كل ذلك ورغم الثمن الوازن الذي سبق أن دفعه الرئيس الحريري نتيجة لما ذكر، فقد صرّح للملأ بأنه «سيتجرع السم» وسيقبل بالمهمة المحددة في مضمونها من خلال تفاصيل المبادرة الفرنسية واقتراحاتها الإنقاذية والتي احتوت على بعض يسير من التعديلات المتناولة للمبادرة «ومهمتها». وبكل جرأة واندفاع، أعلن للملأ ترشيحه «الطبيعي» لرئاسة الحكومة الإنقاذية المقبلة ذلك أن عملية الإنقاذ تتطلب مديرا ومدبّرا لها، تطال يده مواقع القرار والمال والأثر في عالم اليوم المنشغل عن كثير من تفاصيل الحياة السياسية العامة، بالأحوال الصعبة التي تطاوله نتيجة للمصائب الصحّية والإجتماعية والإقتصادية التي طاولته بها جائحة الكورونا، ومع ذلك ونتيجة لما برز للمبادرة الفرنسية و«مهمتها»، من معارضين ورافضين ومشوهين لحقيقتها الإصلاحية والإنقاذية، متسلحين بالدفع الإيراني الغارق في مشاحناته مع الولايات المتحدة الأميركية، والمترقب لنتائج الإنتخابات الأميركية المقبلة وما سينتج عنها من مفاوضات وتوافقات على مستوى العلاقات ما بين طرفيها، وعلى مستوى نتائجها وأثمانها المدفوعة والمنتظر دفعها في المنطقة عموما وفي لبنان خصوصا، ومن الواضح حتى الآن أّن هناك من يعارض مبادرة الرئيس سعد الحريري الإنقاذية المستندة إلى تفاهمات «المهمة» المقترحة فرنسيا، وهي معارضة تتجاهل الواقع الخطير الذي يغوص فيه الوطن في هذه الايام العصيبة والتي سيكون من الصعب إيجاد بديل ليقوم بما تجرأ الرئيس الحريري فطرح نفسه لهذا الدور الصعب والمحاط بجملة من العقبات والمطبات والمخاطر متجاوزا ومتحملا كل الأخطار والاضرار التي توقعها لنفسه ولوضعه السياسي والتمثيلي.

الإستشارات النيابية لاختيار رئيس وزراء قائد للمهمة الإنقاذية ستبدأ اليوم، وبانتظار نتائجها المعقدة، والمُعترض عليها من رئيس التيار الوطني الحر لأسباب حددها وحورها إلى ما يخدم تطلعاته المستقبيلة، فإن مصير لبنان كلّه بات على المحك المصيري، في مواجهة أخطار هائلة الأحجام قد تطاول مصيره بأقسى أنواع النتائج، وأهمها ما هو منعكس منذ الآن على وضعية قطاعات واسعة من الشعب اللبناني ومصيرها المظلم وسط أكداس الإنعكاسات السلبية التي تفرزها المنظومة على استقرارها المعيشي والحياتي.