بعد إنجاز الانتخابات النيابية وانتخاب رئيس المجلس النيابي الجديد ونائبه وهيئة مكتبه، يكون الاستحقاق الدستوري التالي دعوة رئيس الجمهورية الى استشارات نيابية ملزمة لتسمية شخصية لتكليفها تأليف الحكومة، وتليها استشارات نيابية غير ملزمة يجريها الرئيس المكلّف، لتقديم تشكيلة وزارية إلى رئيس الجمهورية ليوافق عليها ويوقّعها إلى جانبه، ومن دون توقيع الرئيس لا تبصر هذه الحكومة النور، فهذه إحدى الصلاحيات المهمّة التي بقيت في يد الرئيس بعد التعديلات الدستورية التي أُجريت في «اتفاق الطائف». وكان امتناع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون عن توقيع التشكيلات التي قدّمها إليه الرئيس المكلّف سعد الحريري، السبب المباشر لاعتذار الأخير عن هذه المهمّة.
كذلك دأب عون في المرحلة السابقة، خصوصاً بعد استقالة حكومة الرئيس حسان دياب، في 10 – 8 – 2020، على إجراء مشاورات مع الكتل والقوى الرئيسية، قبل الدعوة الى الاستشارات النيابية الملزمة، وأجّل هذه الاستشارات أكثر من مرة، ما لاقى اعتراض رئيس مجلس النواب نبيه بري. وأدّى التناحر السياسي إلى تأخير تأليف حكومة، بعد استقالة دياب لـ11 شهراً، تخلّلها اعتذار شخصيتين عن هذه المهمّة: مصطفى أديب والحريري، الى أن كُلّف الرئيس نجيب ميقاتي التأليف في 26 – 7 – 2022، ووُلدت حكومته في 10 – 9 – 2022، واستمرّت نحو 8 أشهر، إلى حين إجراء الانتخابات النيابية في 15 أيار الماضي، واعتُبرت مستقيلة ودخلت مرحلة تصريف الأعمال مع بدء ولاية المجلس الجديد في 21 من الشهر المنصرم.
وانطلاقاً من التجارب السابقة، فضلاً عن أنّ ولاية رئيس الجمهورية تنتهي في 31 تشرين الأول المقبل، أي بعد أقل من 5 أشهر، يحوم شبح الفراغ الحكومي خلال هذه الفترة، نظراً الى عدم بروز أكثرية نيابية واضحة، ودخول عوامل جديدة إلى اللعبة السياسية، مع تراجع كتل وتقدُّم أخرى ودخول نواب جدد إلى مجلس النواب، ولا سيما منهم «التغييريون»، الذين وعلى رغم أنّ عددهم ليس كبيراً، إلّا أنّهم يُعتبرون ممثّلي «الثورة» وصوت الشعب، ما يفرضهم ككتلة ضاغطة.
كذلك، إنّ شبح الفراغ يلوح أيضاً في القصر الجمهوري، انطلاقاً من التجارب السابقة، حيث بقي الكرسي الرئاسي فارغاً لسنتين ونصف السنة قبل انتخاب عون رئيساً للجمهورية. وهنا تكمن أهمية الحكومة التي ستُؤلّف، إذا أُلّفت، إذ إنّ الدستور ينص على أنّه «في حال خلوّ سدّة الرئاسة لأي علّة، كانت تُناط صلاحيات رئيس الجمهورية وكالةً بمجلس الوزراء»، علماً أنّ الحكومة تُعتبر مستقيلة عند بدء ولاية رئيس الجمهورية .أمّا إذا لم يجرِ تأليف الحكومة وبقيت حكومة ميقاتي تصرّف الأعمال، ولم يُنتخب رئيس للجمهورية فور انتهاء ولاية عون، يدخل البلد الفراغ على مستوى السلطة التنفيذية، ويصبح الوضع مفتوحاً على كلّ الاحتمالات، خصوصاً في ظلّ «الاجتهادات» و«التفسيرات» الدستورية وفق الأهواء السياسية.
في هذه المرحلة، يُنتظر ان يحدّد عون موعداً لإجراء الاستشارات النيابية لتكليف شخصية تأليف الحكومة، وسط تشديد دولي على الإسراع في تأليف حكومة قادرة على إنجاز الإصلاحات المطلوبة. فهل سيدعو عون إلى هذه الاستشارات سريعاً أم أنّه سيستمهل لإجراء مشاورات سياسية كما فعل سابقاً؟ بحسب المعلومات، ينتظر عون إرسال الأمانة العامة لمجلس النواب لوائح بالكتل النيابية والنواب المستقلّين، ليُصار على أساسها تحديد المواعيد. وفي هذه الأثناء، سيُجري الرئيس بعض المشاورات، وهي «طبيعية»، بحسب قريبين منه، وذلك في ضوء جلسة مجلس النواب أمس الأول، وما أفرزته من مواقف. لكن هذه المشاورات لن تأخذ كثيراً من الوقت، بحسب هؤلاء. ومن المرجح أن يحدّد عون، خلال الاسبوع المقبل، مواعيد الاستشارات، وذلك بعد جلسة انتخاب اللجان النيابية الثلثاء، وبالتالي قد تكون هذه المواعيد نهاية الاسبوع المقبل أو خلال الاسبوع الذي يليه.
كذلك، لا موقف لعون حتى الآن، حول شكل الحكومة ونوعها، في انتظار المشاورات الحاصلة، والتي لا تُجرى حول إسم الرئيس المكلّف فقط بل على شكل الحكومة أيضاً. وإذ يرصد عون ردود الأفعال ومواقف الأطراف، سيحدّد موقفه بعد أن تكتمل لديه الصورة. وكان رئيس الجمهورية بدأ مشاوراته مع بري، خلال استقباله أمس الأول في القصر الجمهوري، بعد انتخابه رئيساً لمجلس النواب، وسيتشاور مع آخرين حول المرحلة المقبلة، خصوصاً أنّ الحكومة المرتقبة ستكون تركيبتها دقيقة، لأنّه يجب الأخذ في الاعتبار كلّ الاحتمالات التي تتردّد على ألسنة السياسيين، خصوصاً لجهة احتمالات الفراغ، بحسب قريبين من الرئيس.
لذلك، يتريث عون قبل تحديد موقفه في انتظار تبلور الجو السياسي العام، خصوصاً أنّ هناك نواباً جدداً ومواقف جديدة، وكتلاً تُركّب، ومطالب وشعارات تُرفع. كذلك إنّ تجربة انتخاب رئيس مجلس النواب ونائبه وهيئة مكتب المجلس، لا يُمكن اعتمادها قاعدة والعمل على أساسها، إذ قد تكون لها ظروفها، ويجب تبيان مواقف الكتل النيابية، فالنواب هم من سيطلبون من رئيس الحكومة شكل الحكومة، وهم من سيمنحونها الثقة، علماً أنّ لرئيس الجمهورية رأيه، لكنّه ليس هو من يؤلّفها.
وبالنسبة الى الفراغ، وبعد صدور اقتراحات حول عدم جواز أن يترك عون سدّة الرئاسة في ظلّ حكومة تصريف أعمال، ومنها أُطلق من على منبر القصر الجمهوري، يؤكّد القريبون من عون، أنّ «موقفه واضح، وهو سيغادر القصر الجمهوري عند انتهاء ولايته، ونقطة على السطر. وبالتالي، لا يُفترض بأحد أن يؤوّله مواقف أو يبني على تصريحات آخرين لمهاجمته. فموقف الرئيس واضح، وسيكون 31 تشرين الأول اليوم الأخير له في القصر الجمهوري، بحيث يغادره ويتوجّه الى منزله في الرابية، معززاً مكرّماً وفق الأصول».