تقدّم “القوات” وتراجع “التيار” وارتباك “حزب الله”
إذا كانت سنة 2022 شهدت توقيع اتفاق ترسيم الحدود بين لبنان و»دولة إسرائيل» فإنّها شهدت أيضا ترسيماً جديداً للحدود السياسية الداخلية بين القوى التي وقفت على ضفتيْ الحكم بين السلطة وبين المعارضة بعدما شهدت ترسيماً للحدود بين الفراغ في موقع رئاسة الجمهورية وبين الفراغ في سائر المؤسسات التي حكمها الإنهيار فباتت معطّلة أو شبه معطّلة في دولة فَرَغَت من مضمونها وأصابها الإنهيار وفقدت أسباب الإستمرار بعدما انعدمت فيها الحدود بين الدولة واللادولة.
شكّلت انتخابات 15 أيار 2022 النيابية حدّاً فاصلاً بين زمنين في عمر الدولة اللبنانية. فبعدما كان الرهان عليها ليبدأ معها الصعود من الهاوية سقط الرهان وتلاشت الأحلام. وبعدما كان يؤمل أن تكون بداية النهوض ومقدّمة لملء الفراغ في سائر المؤسسات وتأمين انتخاب رئيس جديد للجمهورية يتمّ بعده تشكيل حكومة جديدة حلّت الخيبة وحلّ الفراغ في القصر الجمهوري وانشلّ عمل حكومة تصريف الأعمال وانعدم أداء المجلس النيابي بعدما تحوّل إلى شاهد زور على استحقاق رئاسي بدا بعيد المنال في ظلّ صراع الأوراق البيض والأوراق الملغاة مع أوراق حملت أسماء كان أبرزها ميشال معوض ولكنّها عجزت عن القفز إلى حافة أكثرية الـ65 نائباً التي تؤهِّل حاملها لدخول المنافسة الحقيقية ليصبح رئيساً بانتظار تأمين نصاب الثلثين ولكي يبدأ معها تحميل المعطّلين مسؤولية التعطيل. لم تفرز انتخابات 15 أيار أكثرية موصوفة. ولكنّها أعادت فرز الساحة السياسية وفرضت ترسيماً جديداً للحدود بين الأحزاب والطوائف وبين من كانوا يشكّلون قوى 14 آذار وقوى 8 آذار وظهّرت أحجاماً جديدة رفعت أطرافاً وأنزلت أخرى من دون أن تمكِّن أي طرف أو تحالف من الحسم أو الفوز في المعركة الرئاسية.
«القوات» نيابياً وشعبياً
أبرز المتقدمين في اللعبة السياسية نتيجة الإنتخابات كان حزب «القوات اللبنانية» الذي تمكّن بفضل تحالفاته من كسر الأكثرية التي كان احتفظ بها «التيار الوطني الحر» منذ العام 2005 داخل مجلس النواب على صعيد التمثيل المسيحي. نجحت «القوات» في خوض معركة سياسية وانتخابية مستفيدة من قوة الحضور ومن وضوح المواقف وثباتها ومن التركيز على نقاط ضعف الآخرين خصوصاً تحالف «حزب الله» و»التيار الوطني الحر». ونتيجة ذلك رفعت «القوات» عديد كتلتها النيابية إلى 19 نائباً وكسبت المرتبة الأولى في تصويت المسيحيين متخطّية «التيار الوطني الحر» بعدد كبير من الأصوات. هذا الإنتصار القواتي لم يترجم على أرض الواقع ولكنّه شكّل نقطة قوة وحضور وتغيير في اللعبة السياسية بحيث تحوّلت «القوات» إلى ما يشبه القاطرة السياسية لمجموعات المعارضة التي تلتقي حول نهج يقوم على المطالبة بتغيير السلطة القائمة منذ انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية في 31 تشرين الأول 2016. صحيح أنّ «القوات» كان لها دور أساسي في انتخاب عون وفتح طريق بعبدا أمامه، وصحيح أيضاً أنّ العهد مع «حزب الله» حاولا محاصرة «القوات اللبنانية» وإبعادها عن تحقيق أي تقدم ولكن «القوات» حوّلت هذه المواجهة لمصلحتها. من هذه الخلفية أسقط الرئيس عون ومعه رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل تفاهم معراب وانقلبا عليه ولكن هذا الأمر انعكس سلباً عليهما واستفادت منه «القوات». منذ 19 تشرين الأول 2019، بعد يومين على بدء انتفاضة 17 تشرين وخروج القوات من الحكومة والإنتقال إلى ضفة «الثوار» أحسنت القوات الإستفادة من المرحلة السياسية لتراكم إنجازات حصدت نتائجها في صناديق الإقتراع.
«التيار» إلى الوراء
على الضفّة الأخرى من الشارع المسيحي انتقل «التيار الوطني الحر» من حزب السلطة والعهد ليصير الحزب المنبوذ من بيئته والمسؤول عن الإنهيار وعن الدخول في نفق جهنم. كان العهد يأمل أن تكون السنوات الستّ من ولايته كافية لكي يعزّز حضوره مستفيداً من سحر السلطة وجذبها للمنتفعين، ولكن النتائج جاءت عكسية وانتهى الرئيس عون في 31 تشرين الأول 2022 وهو يغادر القصر الجمهوري إلى إعلان الفشل وإلى تحميل الآخرين مسؤولية هذا الفشل على قاعدة «ما خلّونا» التي اعتمدها «التيار» لتبرير الخسارات المتتالية الأمر الذي انعكس مزيداً من الإنهيار في الشعبية ومزيداً من تحميله المسؤولية خصوصاً من كثيرين ممن آمنوا في لحظات معينة بأنّ الرئيس عون مع التيار هما المنقذان والأمل، وثبت بالدليل الحسي أنّ العكس هو الصحيح. ولم يقتصر حجم الخسارة على هذا المستوى بل انتقل إلى العلاقة بين «التيار الوطني الحر» و»حزب الله» ليهدّد جدّياً التفاهم الذي قام بينهما منذ 6 شباط 2006. فالخسارة تُفرِّق بدل أن تجمع وبالتالي ذهب «التيار إلى تحميل «حزب الله» مسؤولية الفشل لأنه لم يدعمه ولم يتخلَّ عن دعم الرئيس نبيه بري رئيس حركة «أمل» الذي اعتبره الرئيس عون وباسيل أنه رئيس فريق المعرقلين للعهد. هذا التفاهم الذي ترنّح بعد تشكيك باسيل بصدق وعود الصادقين شكّل في احتضاره مفصلاً أساسياً في إعادة رسم الخريطة السياسية كما شكّل في توقيعه بداية طريق لرسم خريطة سياسية جديدة في العام 2006 استفاد منه الطرفان في تأمين مصالحهما من دون أن ينعكس على حسن الأداء في السلطة وعلى تحسين وضعية الدولة بحيث تمّ نحره على مذبح تكبير دور الدويلة التي مثّلها «حزب الله».
«حزب الله» ونقاط ضعفه
حاول «حزب الله» أن يؤمّن انتصارات لحليفه خلال الإنتخابات النيابية ونجح في مدّه ببعض المقاعد ولكنّه فشل في أن يبقيه في المرتبة الأولى للتمثيل المسيحي فهو لم يكن يقبل بأن يخسر حليفه مقابل فوز «القوات اللبنانية». راهن «الحزب» على مسألتين في الإنتخابات النيابية: أن لا يتمّ خرق المقاعد الشيعية في أي دائرة وأمّن مع حركة «أمل» والرئيس نبيه بري فوز 27 نائباً شيعياً بأصواتهما مع توسيع دائرة القدرة على التأثير على عدد من المقاعد السنيّة. احتكار التمثيل الشيعي أمّن للثنائي استمرار الرئيس بري في رئاسة مجلس النواب ولكنه لم يؤمّن له اختيار رئيس الجمهورية الذي يريد.
صحيح أن الرئيس بري لم ينتخب مرشّح «حزب الله» العماد ميشال عون في العام 2016 ولكن الثنائي اتفق هذه المرة على دعم المرشّح الذي كان يريده بري في ذلك الوقت، رئيس «تيار المردة» سليمان فرنجية. كانت لدى «الحزب» وقتها ملاحظات جوهرية على الطريقة التي تصرّف بها فرنجية من خلال توجّهه إلى قبول عروض ترشيحه الأولى من رئيس «تيار المستقبل» سعد الحريري ومن الرئيس بري، ولكنّه في انتخابات 2022 الرئاسية وجد نفسه أمام خيار فرنجية بعد استحالة تبنّيه خيار جبران باسيل مرشّح الرئيس عون لأنّ تعهّده الذي قطعه للرئيس عون لا يمكنه أن يقطعه لباسيل وهذا ما مهّد للتصدّع الكبير الذي أصاب تفاهم 6 شباط.
فـ»حزب الله» يعرف أنّه يخوض الإنتخابات الرئاسية من موقع ضعيف ولا يمكنه أن يفرض الرئيس الذي يريده وإن كان لا يزال ربما قادراً على منع وصول الرئيس الذي لا يريده من دون القدرة على التحكم بهذه القدرة إلى مدى غير محدّد في حال تغيّرت الظروف والمعطيات والترشيحات. وإذا كانت انتخابات 2018 أعطت الحزب وحلفاءه أكثرية موصوفة فإن انتخابات 2022 أفقدته هذه الأكثرية ووضعته في موقف صعب لناحية عدم تمكنه حتى من الجهر باسم مرشحه مع وضعه في حسابه دائماً أنّه مرشّح للتفاوض على اسم يمكن أن يتمّ القبول به مع شرطه الدائم بأن يأمن جانبه ولا يطعنه هذا الرئيس في الظهر ومع ذلك لم يظهر أن لديه اسماً غير التعطيل.
ارتباك «حزب الله» على المستوى الرئاسي يترافق مع ارتباك على المستوى الأمني والسياسي نتيجة حدثين مفاجئين له: الأول بعد حادث الإعتداء على دورية قوات اليونيفيل في بلدة العاقبية الذي اضطرّ بعده إلى عدم تبنّيه وإلى التراجع أمام التركيز المحلي والدولي على تحقيق شفاف وإن كان من غير المنتظر أن تتأمّن الظروف المساعِدة على مثل هذا التحقيق. الثاني المواجهة التي حصلت مع أهالي بلدة رميش الذين رفضوا استباحة «الحزب» لأراضيهم من خلال جمعية «أخضر بلا حدود» الأمر الذي اضطرّه أيضاً إلى احتواء الموضوع بإعلان الإنسحاب من مواقع كان أنشأها داخل هذه الأراضي. وهي من المرّات القليلة التي يتراجع فيها الحزب في مثل هذه القضايا.
الحريري خارج السياسة
التعديل الأكبر في خريطة الحدود السياسية الداخلية كان خروج الرئيس سعد الحريري من اللعبة السياسية بعدما أعلن تعليق العمل السياسي والعزوف عن خوض الإنتخابات وابتعد عن المشهد بصورة كاملة منصرفاً إلى أعمال خاصة من خارج الحدود من دون أن تكون لديه أي خريطة طريق للعودة إلى لبنان. فقد بدا أنّ هذا الخيار خياره وأنه حتى لا ينتظر لعبة الوقت على طريقة مراحل عبور الصحراء التي يمرّ بها سياسيون في أوقات كثيرة ويحتفطون دائماً بقوّة العودة إلى الحضور وإلى الملعب. فالرئيس سعد الحريري ترك الملعب واللعبة واللاعبين الآخرين وأوحى أن اعتزاله دائم وأن لا عودة عن قراره في المدى المنظور الذي لم يعد يتَّسع لهذه العودة حتى، لأن الفراغ الذي يتركه يوجد تباعاً من يملأه ولأنّه لا يشحن شارعه والذين كانوا معه من مؤيِّديه بأسباب البقاء بحيث يبقون جاهزين لقرار العودة بينما لا يلاحظون أن مثل هذا القرار المحتمل موجود في لائحة أهدافه وأنّ العكس ربّما هو الصحيح. لذلك انعكس هذا الغياب للرئيس سعد الحريري تشرذماً في التمثيل السنّي حاولت دار الفتوى مع المفتي عبد اللطيف دريان والمملكة العربية السعودية من خلال السفير وليد البخاري ومع عدد من القيادات السنية لملمته. وهذا الأمر أتاح للرئيس نجيب ميقاتي البقاء في سدة الرئاسة الثالثة مراهناً على أنه سيتسمرّ في هذا الموقع حتى لو حصلت انتخابات رئاسية.
جنبلاط والتمثيل الدرزي
الطرف الآخر الذي استطاع تحقيق تقدم في الموقع السياسي كان رئيس «الحزب التقدمي الإشتراكي» وليد جنبلاط الذي استفاد من اللعبة الإنتخابية على غير ملعبه ليحصد نتائجها في ملعبه. فنتيجة تركيز «حزب الله» على دعم «التيار الوطني الحر» أدّت إلى خسارة الأمير طلال أرسلان لمقعده النيابي وإلى فشل الوزير السابق وئام وهاب في كسر الحاجز الذي يحول دون دخوله إلى البرلمان. وهذا الفوز سيعزّز من احتكار جنبلاط للتمثيل الدرزي وسيبعد أرسلان عن أي حكومة جديدة وسينعكس سلباً على حضوره السياسي خصوصاً أنّه فقد الكثير من هذا الحضور منذ الإنتخابات بحيث لم يعد يتّكل إلّا على تمثيل وزيره في حكومة تصريف الأعمال وزير المهجرين عصام شرف الدين وهذه هي المرة الأولى تقريباً التي يصل فيها حضور دار خلدة إلى هذا الإنحدار.
قوى التغيير تحتاج إلى تغيير
ثمة اتفاق على أنّ قوى التغيير استطاعت أن تحقق خرقاً من خارج الإصطفافات السياسية بحيث نجحت في وصول 13 نائباً غير محسوبين على أيّ طرف وإن كانوا أقرب إلى المعارضة بمعناها الشامل. ولكن هؤلاء الذين وصلوا بقوة التصويت المعارض ليس لأسمائهم أو لقوة تأثيرهم وحضورهم الشخصي، انتهوا إلى خيبة أمل نتيجة ما أظهره بعضهم من مراهقة سياسية وعدم إلمام بأصول اللعبة السياسية وصولاً إلى الإفتراق في استحقاق انتخاب رئيس الجمهورية وعدم اتفاقهم على اسم محدد وتوزعهم إلى أكثر من مجموعة.
نتيجة هذه الحدود الجديدة في الترسيم الداخلي للعبة السياسية يقف استحقاق رئاسة الجمهورية أمام استحالة التمكن من إنجازه بحيث ترتسم حدود مانعة لهذا الإنتخاب ليبقى الفراغ مسيطراً على مقر الرئاسة في بعبدا ولكي يبقى لبنان متجهاً نحو الإنهيار الشامل في ظلّ عدم وجود أيّ حدود لهذا الإنهيار أو أيّ حواجز تمنع استمراره. وإذا كانت انتخابات 2022 رسمت هذه الحدود فلا يمكن انتظار انتخابات 2026 لكي تعيد ترسيم الحدود من جديد لأن المطلوب فتح الحدود أمام الرئاسة.