كان يوم الأحد الواقع فيه 15 أيار 2022 يوماً مشهوداً في تاريخ لبنان. فقد جرت فيه الإنتخابات البرلمانيّة الّتي تجرى كل أربع سنوات، لكنّ الطابع العام، والخاص، لهذه المناسبة كان مختلفاً عنه في بقية السنوات وذلك بفضل عوامل داخليّة واقليميّة ودوليّة. فلقد شكّلت هذه الإنتخابات حدّاً فاصلاً في تاريخ لبنان الحديث. إنّه الحدّ الذي يفصل بين بقاء لبنان في حضن الرعاية الفارسيّة عبر «حزب الله» ورديفه «التيار الوطني الحرّ» من جانب، أو الانتقال الى الرعاية العربيّة عبر القوى السياديّة والحركات التحرّريّة من جانب آخر. وإنطلاقًا من الدرك الذي وصل إليه لبنان سياسيّاً، واقتصادياً وإجتماعيّاً، كان جميع المعنيين بشأن لبنان، في الداخل والخارج ينتظرون بشغفٍ وقلقٍ وأمل ما ستسفر عنه هذه الإنتخابات ليبنى على الشيء مقتضاه.
وبالفعل، فقد حملت هذه الإنتخابات علامات معبّرة في المظهر والجوهر. إنّها الساحة التي ترفع أعلام الحريّة وتفسح في المجال لأبناء الشعب اللبناني كي يقولوا كلمتهم المدويّة في اختيار ممثّليهم ورفع الكابوس عنهم وتأكيد حقهم الطبيعي والقانوني في بناء دولة القانون على حساب دولة المزرعة.
فما هي أهميّة هذا الحدث؟
وما هي الأمثولات الّتي يمكن استخلاصها منه؟
وما هي العِبر الّتي يمكن اتخاذها منه؟
1 – انّ الأهميّة الاستثنائيّة لهذه الانتخابات تكمن في طبيعتها أولاً وفي إستهدافاتها ثانياً. فهي في طبيعتها خيار مفصلي في تاريخ لبنان والمنطقة بين زمنين: زمن البؤس والقيد، وزمن السعد والتحرّر. وهي في استهدافاتها الأداة الديمقراطية الفضلى لإبراز لبنان بلداً مؤمناً بالديمقراطية بمفهومها الفينيقي – اليوناني أي إعلاء رأي الشعب وإرادة الشعب بقوّة الإقناع والمنطق لا بقوّة السلاح، وما هو أصعب وأخطر: في مواجهة قوّة السلاح والتعسّف. وبشكل واضح ومعبّر: رفع ارادة الشعب اللبناني في مواجهة سلاح «حزب الله». وبالتالي: اعادة التجربة الديمقراطية اللبنانية الى مسارها التاريخي نموذجاً راقياً لتجربة الانسان الشرق – ادنويّ على الشاطئ الشرقي للمتوسّط!
2 – تكفي العودة الى ما ذُكر وقيل، وكُتب حول هذه الإنتخابات لإدراك مدى أهمّيتها وتأثيرها المباشر وغير المباشر في حياة اللبنانيين، وحتى في محيط لبنان. لقد كانت العلاج الوحيد لإخراج لبنان من المأزق الذي يعيش فيه.
وبالفعل، وهو ما تبرزه الوقائع، فإن حصول هذه الانتخابات أدخل الكثير من الأمل في قلوب الكثيرين من اللبنانيين حيث إرتفعت مؤشرات السيادة والاستقلال في مواجهة مؤشرات التبعيّة والاستغلال. وشعر العديد من اللبنانيّين بأنّهم يدخلون فعلاً مرحلة جديدة من تاريخهم الحافل بالتجارب الصعبة.
3 – ان الطابع العام لهذه الانتخابات هو الميل الى الحسم: في الخيارات في المواقف، في التحالفات، لقد جاء الزمن الذي تمتحن فيه حقيقة الأمور: أبيض أو أسود. مع لبنان أو ضده. مع الشرعيّة الدستوريّة أو ضدها، مع الدولة أو مع الدويلة، مع القانون أو مع التزوير، مع الموقف الصريح والمعلن أو مع الموقف المخفي والمضمر.
وفي ضوء هذه المعايير تمّ فرز الناخبين. وجاءت النتائج بشكل واضح الى جانب تغيير ظاهر وإن لم يكن كاملاً وحاسماً. المهمّ أنّ أجواء البلاد السياسيّة بدأت تتنفّس فوراً هواءً جديداً.
4 – من المؤشرات على ذلك:
تعديلات بارزة في أحجام الكتل النيابيّة.
فقدان الأكثرية السابقة أولويتها في المجلس.
دخول قوى الثورة والحركات الشعبية الى الندوة النيابيّة.
اعتماد الخيارات الجذريّة في التمثيل وهو ما يبرز لدى الطائفة الدرزيّة.
إلغاء بعض ممثلي القوى الاقليميّة عن المسرح البرلماني.
سعي القوى المتضررة للتعويض عن الفشل السياسي بتصريحات التحدّي والمكابرة!
5 – إذا كان الوضع العام للبلاد يعطي إنطباعاً عمّا يستتبع التصويت فانّ معرفة الأمور على حقيقتها ودقّتها تقتضي مرور بعض الوقت كي ترتسم المعالم الكاملة للصورة السياسيّة للوضعيّة اللبنانية.
وهذا يحتاج الى بعض الوقت وبعض الامتحانات الّتي ستجرى على التركيبة الجديدة وفي مقدمها أربعة أمور أساسيّة:
– انتخاب رئيس جديد للمجلس النيابي .
– السعي لتأليف حكومة جديدة.
– الإلتزام بالخطّة الاصلاحيّة.
– انتخاب رئيس جديد للجمهوريّة اللبنانية.
6 – هذا المجلس الجديد سيشكّل إمتحاناً صعباً لجميع اللبنانيين ولمدى التزامهم بالأصول الديمقراطيّة من خلال الاعتراف والقبول بوجود أكثرية جديدة في البرلمان في ظلّ وجود ذهنيات سياسيّة جامدة ترفض الاعتراف بالأمر الواقع. وأكثر من ذلك تستعين بالقدرات الماديّة لكي تسقط المعطيات المبدئية القانونية! إن الاحتكام إلى إرادة الناس وضمائرهم تعني حكماً رفض الاحتكام الى مفاعيل السلاح. وضمن هذه المعادلة البسيطة والواضحة يتحدّد مستقبل لبنان عشيّة هذه المرحلة الدقيقة من تاريخه.
إن التهاني التي وجهتها المراجع الدوليّة الى لبنان بحصول هذه الانتخابات وبينها: الولايات المتحدة وفرنسا والاتحاد الأوروبي والجامعة العربية ومختلف أصدقاء لبنان… كل ذلك يبيّن مدى أهميّة لبنان وانتظارات العالم لرؤيته ينهض ويستعيد عافيته السياسية والاقتصادية ويلعب دوره كصلة وصل بين دول المنطقة. وبناء عليه، فإنّ اللبنانيين، كل اللبنانيين، الى أية جهة سياسية او طائفية انتموا، مدعوون للاستجابة لصوت الضمير الوطني الذي يدعوهم كي يرصّوا صفوفهم خلف شعار واحد هو: قيامة لبنان المتحرّر المتجدّد الملتزم بقيمه ووجوده وتاريخه رغم وجود قوى متعدّدة ومتنافرة ومتواجهة على أرضه. إن هذه الانتخابات، وهذا المجلس الجديد، ينبغي أن يشكّل بارقة أمل لشعب لبنان، لا قنبلة لتفجيره.
هذا هو أملنا!
وهذه هي أمنيتنا مع الطيّبين !