الناخبون أمام تحدي التصويت المفيد لا العقابي.. والتغييريون يحظون بفرصتهم
لا فجاجة ترقى الى المشهدية الإنتخابية التي إنتهى إليها لبنان في الأيام العشرة الأخيرة. حقائب الأموال هبطت من علوّ. ملايين الدولارات الطازجة، السوسة التي تقضي على ما بقي من رابط اجتماعي، تُزرع في بيروت والأشرفية وطرابلس والبترون والمتن والشوف وكسروان وجبيل، من غير أن تأتي بالحصار الموفور المعوّل عليه. تُزاد عليها التدخلات الخارجية التي ارتفعت بوتيرة غير مسبوقة، فيما رئيس الحكومة نجيب ميقاتي لا يجد غضاضة في الترويج لها، ممالأة، ويفتي بمنحها الشرعية السياسية.
من نافل القول إن المساحة الأكثر عرضة ورغبة خارجية في الإختراق، هي المساحة المسيحية التي باتت تعوم على بحر من الأموال:
أ-منها ما يدفع لشراء الأصوات، ناخبين ومنخّبين. على سبيل المثال، يتراوح ثمن الصوت الواحد في بيروت الأولى بين 300 الى 500 دولار، فيما المنخًب ينال نسبة مئوية عن كل صوت يجلبه، تصل الى 50% من مجمل قيمة الصوت.
ب- ومنها لشراء مرشّحين، كحال مرشّحين إثنين في عكار، أحدهما قبض مليونيّ دولار طازجة ثمن قبوله دخول اللائحة الحزبية.
ج- ومنها ما يخصص لحجز الهويات في ظاهرة بلغ تفشّيها هذه السنة حدّا خياليا. تدفع الماكينة الحزبية لناخب مناوئ بين 1500 و3000 دولار طازجة لقاء تسليمها هويته وبقائه في المنزل يوم الإنتخاب.
د- فيما الإنفاق الإعلاني بلغ أوجه، متخطيا بأشواط السقف المسموح. ، بين إعلانات طرقية ووسائط مكتوبة وإلكترونية ومحطات مُشتراة بالكامل.
كل هذا الإهراق المالي لم ترَه بعد هيئة الإشراف على الإنتخابات. رئيسها القاضي نديم عبد الملك يعتقد أن صلاحيته تنحصر في تأمين حسن التدبير في الأقلام ومحيطها الضيق يوم الإقتراع، بينما وزير الداخلية بسام مولوي ينتقد عمل الهيئة لحساسية شخصية مع رئيسها، ويثني على نزاهة العملية نافيا وجود رشى إنتخابية، في الوقت الذي كان رئيس الحكومة يتحدث عن «كميات من الدولارات غير مسبوقة دخلت الى لبنان في الأيام الماضية»، وعن «مخالفات تحصل خلال المرحلة الإنتخابية».
لكن التدخلات وشراء الأصوات والأرواح والمرشّحين والهواء الإعلامي وتحريض المغتربين، وخصوصا أولئك الخارجين من لبنان بعد 17 تشرين يأسا وهربا وبحثا عن فرص جديدة، كل ذلك التحشيد والنعيق لم ينجح في تحقيق الإختراق المسيحي المطلوب خارجيا بإلحاح. الإحصاءات التي أجريت في الأيام الأخيرة لم تأتِ بالأخبار المرتجاة للمحشّدين:
1-لا تزال المعركة المسيحية على المنخار بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية. لا بل إن معظمها يمنح للتيار التقدّم بين نقطتين وأربع (15 الى 18 نائبا)، على رغم كل الحرب الشعواء التي خيضت ضده منذ لحظة انطلاق شرارة 17 تشرين 2019، والأدقّ افتعالها.
تكتيك إغتيال الشخصية character assassination أثّر كثيرا لكنه لم يأتِ بالحسم الذي توقّعه وارتجاه القائمون عليه.
2-أما الكتائب اللبنانية وباقي المجموعات المسيحية فعلى حالها الهامشية.
3-وحدها المجموعات التغييرية الأصيلة قد تحقق إختراقا، لو محدودا، والعين عليها بعد الإنتخابات لمعرفة قدرتها على ترجمة نفسها التغييري الذي حظي لا شكّ بتعاطف واسع نتيجة رغبة كثر في الإنتقام من منظومة تحالف الميليشيات والمافيا ودولتها العميقة التي نهبت الأرواح والأموال العامة والخاصة على امتداد الثلاثين سنة الفائتة.
هذا الإحباط الرقمي دفع الخارج الغربي الى العودة خطوة الى الوراء. لم تعد البعثات الديبلوماسية على حماستها الإنتخابية كما الأيام الأولى. تراجع السفراء في نشاطهم الإنتخابي الى الحد الأدنى. وانقطعت أقدام كثر من المرشحين عن المقار الديبلوماسية.
في الموازاة، تقلّص التمويل عن منصات ملأت الدنيا صخبا. فها هي شركات الإعلان تتحضّر لرفع دعوى ضد منصة «نحو الوطن»، متهمة إياها بالتخلف عن التزام واجباتها التعاقدية، فيما المنصة التوأم- الخصم «كلنا إرادة» تراجع مفعولها وتأثيرها، ما خلا ما قد يخدم الكتائب اللبنانية في معركتها.
باختصار شديد، صناديق الـ2022 ليست كغيرها من صناديق ما فات ومات. واللبنانيون أمام تحدّي المحاسبة الحقة، تحدّي التصويت المفيد أو المجدي vote utile لا التصويت العقابي vote sanction.