تؤكّد الديمقراطية الفعلية أنّ أكثرية شعوب الأرض تُدلي بأصواتها في عملية إنتخابات ديمقراطية تنافسية لإختيار ممثليها في مؤسسات الدولة الرسمية، لإتخاذ القرارات الصائبة والملائمة. وهذا الأمر يحصل تِباعًا كل فترة زمنية محدّدة دستوريًا ومنظّمة ضمن مواد دستورية مُشرّعة وفقًا للأصول. وجريًا على العادة التي تتبعُها الدول الديمقراطية، يبدو أنّ أغلبيتها تشهد إنتخابات توصف بأنّها ديمقراطية تنافسية، ضمن برامج عمل موضوعية علمية وعملية واضحة الرؤية وقابلة للتنفيذ.
أما في لبنان، وإستنادًا إلى العديد من الدراسات، فقد طوّرَ الحُكّام العديد من الأساليب للتلاعب بنتائجها أو ما بات يُعرف وفق تصنيف العلم السياسي technology of manipulation، والهدف تحقيق مقاصد غير تلك التي يرجوها الناخبون من العملية الإنتخابية الديمقراطية الشرعية. أما الإنتخابات الديمقراطية، فتهدف إلى الحصول على شرعية تمثيلية صحيحة للناخبين، والتخفيف من حالات العبثية والمحاصرة التمثيلية وإحترام حقوق الإنسان… وعمليًا، يمكن القول أكاديميًا إنّ الإنتخابات اللبنانية التي تُجرى لن تعطي ثمارها في التغيير وإلى إنتقال ديمقراطي للسلطة كما هو معمول به في الأنظمة الديمقراطية.
إستنادًا إلى العديد من الدراسات في علم السياسة، يحتل مفهوم الديمقراطية السليمة عند الكثير من العلماء والباحثين موقع الصدارة في النظم الديمقراطية، وذلك منذ أن عرّف العالِم Joseph Schumpeter، وهو متخصّص في الإقتصاد والعلوم السياسية، على أنّها مجموعة من الإجراءات والمؤسسات التي يستطيع الأفراد من خلالها المشاركة في عملية صنع القرارات السياسية عن طريق التنافس السليم والديمقراطي الشفّاف، في عملية إنتخابات حرّة. ولكن، على الرغم من إهتمام الكثيرين بهذا المفهوم السليم عن الديمقراطية، من الملاحظ لغاية اليوم، أنّه لا يوجد تعريف متّفق عليه بين المهتمّين بالإنتخابات، أو قانونيًا وعلميًا، أي معايير قاطعة التي تُحدِّدْ فعليًا معالم الإنتخابات الحرّة والنزيهة، كما لا توجد منهجية واحدة يمكن من خلالها وضع مؤشرات معينة واضحة وشاملة للإنتخابات الديمقراطية. دائمًا يكون الإستناد إلى ما يُقرّره العلم السياسي من بنود، ولأنّه يعتبر أصولاً أنّ مضامين الإنتخابات تدور حول العديد من المعايير العلمية وفي أولها معياران وهما: المعيار الأول، هو حرية الإنتخابات، وهذا يعني حُكمًا إحترام حريّة الأفراد وحقوقهم الرئيسية، التي هي حق أساسي من حقوق الإنسان المنصوص عليها في المادة /19/ من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمعيار الثاني والأهم، هو نزاهة عملية إدارة الإنتخابات، ومن الضروري أنّ تكون هناك شفافية في إدارة العملية الإنتخابية والنزاهة كشرط أساسي، كونها تسمح بالمشاركة السياسية الفاعلة، أي الإعتماد على تنظيم الحملات الإنتخابية بصدق. ولكن، يظهر جليًا في بعض الأنظمة لامبالاة، إن وُجِدَتْ معضلة أساسية تكمن بعدم تنظيم إستخدامات النزاهة بشكل فعّال، بما يُعرِّض العملية السياسية والإنتخابية للخطر، وبالتالي إضعاف المؤسسات الرسمية وتهديد الديمقراطية.
يعتبر البروفسور وعالِمْ السياسة الأميركي الولادة Robert Alan Dahl، أنّ معايير الإنتخابات الديمقراطية تشترط توافر عوامل عدة مهمة، ويمكن إختصارها بما يلي، أولاً، متطلبات الإنتخابات الديمقراطية تتمثل أصلاً في الإطار الدستوري لأي نظام ديمقراطي، ثانيًا معيار فعالية الإنتخابات الديمقراطية، وهذا يعني أنّ للإنتخابات مقاصد ووظائف، وتترّتب عليها مجموعة من النتائج في نظام الحكم، ثالثًا، معيار حرية الإنتخابات الديمقراطية يتمثّل في كون هذه الإنتخابات تُجرى في ظل قاعدة حكم القانون، وتتسِّم بما يُعرف بالتنافسية، وعليها إحترام الحقوق والحريات الرئيسية للمواطنين، رابعًا معيار نزاهة هذه الإنتخابات حُكمًا أنّها تتُّم بشكل دوري ومنتظم، وتتسِّم إدارتها والإشراف عليها وإعلان نتائجها بالحياد السياسي والعدالة والشفافية، خامسًا، إنّ متطلبات الإنتخابات الديمقراطية هي بمثابة الأساس لأي بنيان، ومعاييرها تتمثل بالديمقراطية الصادقة وليست المُزيّفة.
إنّ الديمقراطية وفقًا لعلم السياسة ليست مجرد إنتخابات، وما وُجِدتْ أوطان إكتسبت صفة الديمقراطية إذا لم تُجرَ فيها إنتخابات حرّة ونزيهة، لأنّها أساس الشرعية الديمقراطية. ووفقًا لمنظومة الديمقراطية، إنّ الإنتخابات تمنحْ المواطنين فرصة إخضاع قادتهم للمساءلة، من خلال عملية تصويت رسمية شرعية ضد أي مسؤول يشغل مركزًا رسميًا تشريعيًا، أو إذا جاز التوصيف تجيز للناخبين محاسبة من يتوّلون المركز التشريعي سلبًا أم إيجابًا.. وهذه الإنتخابات هي فعليًا الآلية الشرعية التي تضمن التداول السلمي للسلطة السياسية في كل الأنظمة القائمة وفقًا للأصول الديمقراطية، وهي تشكِّل العنصر الأساس لأي نظام ديمقراطي يعمل على تحسين ظروف المواطنين، من خلال ربط مصالح الناخبين بمصالح الأوطان الممثلة بنظام سياسي معيّن. كما تُفسح المجال لإختيار ممثلي الشعب الذين يعكسون إرادتهم، وهذا يعني بصريح العبارة، أنّ الإنتخابات الديمقراطية النزيهة تُسهم في تحقيق أهداف الشعوب في التنمية السليمة، وتُرسِّخ عمليًا دعائم حكم ديمقراطي يستجيب لإحتياجات المواطنين ويؤمّن مستقبلهم.
قانونيًا، إنّ الإنتخابات الديمقراطية في أي دولة تحترم نفسها وسيادتها ونظامها وشعبها يكون لها أكثر من هدف، ومن ضمن تلك الأهداف، إكساب المنصب الذي يتمّ الإنتخاب بين المرشحين له شرعية شعبية، وأيضًا مشاركة الناخب أو المواطن في مباشرة حقوقه السياسية. وأما عن إكساب العملية الإنتخابية الشرعية، فإنّ هذه الشرعية هي إرادة الشعب ولا شرعية من دونها. وبالتالي، فإنّ الإنتخابات تكون شرعية بمشاركة الناخبين في الإنتخابات، وهو الهدف الأول والرئيسي للإنتخابات.
إنّ الوصول إلى الندوة النيابية مبني على إرادة الشعب وليس على إرادة سياسية تختزل التمثيل السليم، ويجب أن تتوافق مع أحكام الدستور وأحكام القوانين الدولية .
سؤال يطرح نفسه: ما الغاية من الإنتخابات في لبنان إنْ لم تستوفِ الشروط الديمقراطية التي يحدّدها العلم السياسي، وهل هي للتغيير أم مبنيّة على التسويات كما جرى في إنتخابات العام 2018 ؟ علمًا أنّه توجد مؤشرات خطيرة يعمل لها من يُمسكون بالسلطة، ليُعيدوا إنتاج نفس السلطة وبوجوه مستعارة جديدة.