IMLebanon

«جنون سياسي» يواكب «الجنون المالي»؟!

 

 

تترقب الأوساط المراقبة ما ستحمله الاشهر المقبلة من تطورات تلقي بثقلها على الحياة السياسية في لبنان، التي تستعد لاستحقاقات بالغة الدقة، ولعلّ أهمها الانتخابات النيابية. فمعظم التصرفات تصبّ في اتجاهها، والمخاوف من إمكان تغيير الأكثرية فرضت على أهل الحكم الإستعداد لمواجهة تتسمّ بالجنون السياسي الذي قد يطاول المجتمع الدولي، على وقع «الجنون المالي» القائم، إن لم تنعكس على مصير هذه الانتخابات. فكيف السبيل الى هذه القراءة؟

قبل أيام من دخول البلاد مدار عطلة عيدي الميلاد ورأس السنة، تكثفت الاستعدادات في مختلف الأوساط السياسية والحزبية لمواجهة مجموعة من التطورات المرتبطة بالاستحقاقات السياسية والحكومية والقضائية والدستورية والديبلوماسية الكبرى، والتي تشابكت الى درجة يصعب الفصل في ما بينها، بعدما تحولت رزمة واحدة يستحيل تأمين الحل لأي منها او فكفكة تعقيداتها. وهو ما فرض نوعاً من الاستنفار السياسي، كل من موقعه على مختلف المستويات.

وتأسيساً على هذه المعادلة، فقد تصلّبت المواقف بشدة، ولم يظهر انّ هناك استعداداً لدى اي طرف من الأطراف للتراجع عن مواقفه المتصلبة والمتطرفة، بحيث لم يعد يحتسب اي منهم الضغوط المالية والاقتصادية التي ينوء تحتها المواطنون والمقيمون على الاراضي اللبنانية، الى درجة تراجعت فيها نسبة الاهتمام بطريقة مواجهتها والحدّ من مخاطرها إن كانت تستدعي اعتذاراً او تنازلاً من أي منهم، تسهيلاً للوصول الى الحل. فالأزمة الحكومية بلغت ذروتها، وباتت المواقف منها تنذر بشر مستطير، وخصوصاً إن بدأت مع مطلع السنة الجديدة المواجهة المنتظرة بين رئيس الجمهورية ميشال عون و»التيار الوطني الحر» من جهة، ورئيس مجلس النواب نبيه بري من جهة أخرى، وصولاً الى مرحلة تعطيل مجلس النواب مقابل تعطيل الحكومة. فمرسوم فتح الدورة الاستثنائية للمجلس النيابي بات رهناً بتوقيع رئيس الجمهورية الذي وإن نفى وجود قرار من هذا النوع يقود الى هذه الخطوة امام وفد نقابة المحررين اول من امس، فإنّ القرار قد اتُخذ وتبلّغ به من يجب ان يكون على علم به.

ومرد هذا الإجراء الذي لا بدّ منه، ليس تعطيل السلطة التشريعية بهدف زيادة الشلل في السلطات الدستورية وحسب، انما للدفع في اتجاه إحياء السلطة التنفيذية والعودة عن قرار المقاطعة المتخذ لدى ثنائي حركة «أمل» و»حزب الله»، بعد العجز الفاضح عن إنهاء ملف قاضي التحقيق العدلي في جريمة تفجير المرفأ بالوسائل المعتمدة من قِبلهما. فقد شكا رئيس الجمهورية علناً من مخاطر تجميد العمل الحكومي بعد شهر على تشكيل الحكومة، وضمّ شكواه الى اخرى عند تذكيره بالمهلة الطويلة التي استغرقت عملية ولادتها، بعدما استهلكت على مدى 13 شهراً تكليف شخصيتين لتشكيلها، السفير مصطفى اديب ومن بعده الرئيس سعد الحريري، وقبل ان ينجح الرئيس نجيب ميقاتي في مهمته. وإن أُضيفت نتائج اخرى للتعطيل، فهي أكثر خطورة عندما يتصل الأمر بمصير مجهول لمجمل مشاريع القرارات التي اتخذتها اللجان الوزارية لمعالجة أوضاع الموظفين في القطاع العام والعسكريين واخرى مختلفة، وصولاً الى عدم القدرة على صرف الرواتب في القطاع العام مطلع السنة المقبلة وتأمين كلفة ترميم خط أنابيب نقل الغاز المصري ما بين الاراضي السورية والأراضي اللبنانية وصولاً الى معمل دير عمار في شمال لبنان، لتسهيل الاستفادة من الطاقة الكهربائية الأردنية والغاز المصري.

وإلى هذه المعطيات السلبية يلفت فريق رئيس الجمهورية إلى انّ تجميد العمل الحكومي يهدف الى عرقلة العهد في سنته الاخيرة ومنعه من تحقيق أي انجاز على ندرته، وقد انعكس سلباً على كل القرارات الاستثنائية التي اتُخذت لمواجهة الوضع الاستثنائي في البلاد والتخفيف من أنين المواطنين، وما زالت محفوظة في أدراج الامانة العامة لمجلس الوزراء تنتظر البت بها. فالأوضاع في الإدارة العامة بلغت حداً غير مقبول على الإطلاق، وباتت مصالح الناس وحاجاتهم اليومية مجمّدة، لتوحي أننا مقدمون على ما هو أخطر وأسوأ مما يعيشه البلد حتى اليوم.

وبناءً على ما تقدّم، فإنّ نفي رئيس الجمهورية النية بعدم توقيع مرسوم الدورة الاستثنائية الذي سمع به من خلال وسائل الاعلام، سيستهلك كثيراً من المناقشات في الفترة المقبلة، وسيزيد في الطين بلة ويفاقم الأزمات المتنامية بين أهل الحكم والحكومة، ويضيف الى الخلاف المتمادي بين قصر بعبدا وعين التينة وجهاً آخر بين قصربعبدا والسرايا الحكومية ان لم تتجاوب مع طروحاته في شأن الدعوة الى إحياء العمل الحكومي. والأخطر مما سيؤول اليه الوضع، تلفت القيادات الأمنية الى ما يمكن ان يؤدي اليه هذا النزاع الذي جُنّدت له كل الصلاحيات المكتوبة في القانون والدستور بمعزل عن نتائجه التطبيقية، إن بلغ مرحلة شدّ العصب الطائفي والمذهبي.

فمثل هذه الاجواء التي أطلّت بقرنها منذ أحداث الطيونة وعين الرمانة ودخلت الحصون المقفلة على مثل هذه الاجواء، كقصر العدل مثلاً، قد لا يقف تطورها السلبي عند هذا الحدّ. فالتعاطي مع امر تنفيذ مذكرة التوقيف في حق النائب علي حسن خليل متى انتهت الدورة العادية لمجلس النواب، كما قالت النيابة العامة التمييزية، سيزيد الأمر سوءاً. وما يخشاه المراقبون ان تتلاقى كل هذه العوامل بنتائجها السلبية على تطيير الاستحقاقات المقبلة، ومنها المساعي المبذولة لإحياء المفاوضات مع صندوق النقد الدولي وترميم العلاقات مع دول مجلس التعاون الخليجي وصولاً الى استحقاق الانتخابات النيابية.

ولا يغفل المراقبون عند تحديد مصادر القلق والمخاطر المتوقعة ان يؤدي قرار المجلس الدستوري متى صدر، ردّات فعل سلبية، سواء عطّل المواد المطعون بها في قانون الانتخاب الذي اقرّه مجلس النواب او رفض المسّ بها. ففي الحالتين سيكون هناك خاسر ورابح يستعدان منذ اليوم لكلتا الحالتين للاستثمار فيها. فالقرار إن حمل ردّ الطعن او عكسه، يحمل في طياته بذور المواجهة. والاتهامات السياسية جاهزة لتقود إلى المواجهة عند التصنيف المعدّ لتركيبة المجلس الدستوري السياسية والطائفية، والتي تزيد من مضارها عدم القدرة على البت بالطعن بالإجماع المطلوب. فالمعلومات الأولية تتحدث عن تصلّب في المواقف قد يحول دون إصدار القرار النهائي ضمن المهلة التي اقتربت من نهايتها، وهو ما سيثير زوبعة قد تنعكس على بقية الأزمات فتزيدها تعقيداً.

وأياً كانت النتائج التي سيفضي إليها هذا الوضع المأزوم، لا بدّ من الإشارة إلى انّ ما هو منتظر من ضغوط خارجية سيؤدي إلى تفاقم الأمور. فالسلطة المتنازعة على كل القرارات الداخلية المكلّفة بها، ترى في إصرار المجتمع الدولي على الانتخابات النيابية، مناسبة لاتهامه بالتدخّل في الشؤون الإنتخابية لنصرة فريق على آخر، وهو ما قد يفضي الى زيادة الامور تعقيداً. فتنتقل البلاد من حال الشلل الحكومي والإداري الى مرحلة تقترب من «الجنون السياسي» ليواكب «الجنون المالي» الذي عبّر عنه سعر صرف الدولار، وصولاً الى محطة اللاعودة، إن صحت بعض السيناريوهات التي يعدّ لها أركان السلطة للدفاع عن اكثريتهم مهما بلغت الكلفة، ولو كان لبنان بمختلف سلطاته ومؤسساته وقوداً لها.