Site icon IMLebanon

مناورات قتالية داخل السلطة

 

 

وهكذا، خسرت 17 تشرين ورقتها الأخيرة المُمكنة: «الغضب». وبعد اليوم، بات نزولها إلى الشارع يستلزم حسابات أكثر دقّة.

الخطة التي تتَّبعها منظومة السلطة باتت واضحة: في العام 2005، عندما تعرَّض محور طهران – دمشق لضربة غير متوقَّعة، اعتمد خطة فيها المناورات السياسية والعصا الأمنية، فهُزِمت 14 آذار. وبعد 6 سنوات، انطفأت مفاعيل 14 آذار تماماً.

 

في ذلك الحين، 2011، كان ما سُمِّي «الربيع العربي» قيد الانطلاق بانقلاباته وحروبه الأهلية. ووجَد محور طهران نفسه مضطراً إلى الإمساك باللعبة جيداً في لبنان، لئلا يخسر ركيزته قاعدته الأساسية للتحرُّك في سوريا.

 

وفي العام 2019، وفيما كانت مفاعيل «الربيع» تشرف على الانتهاء، انطلقت حركة 17 تشرين الأول. وفي المغزى السياسي، كانت تلك محاولة لاستعادة 14 آذار. وهو ما تكشَّف لاحقاً عندما اضطر «التشرينيون الحقيقيون» إلى البوح بما سكتوا عنه ظرفياً خلال الانتفاضة، وهو أنّ العقدة الحقيقية هي في السياسة لا في «الفساد» بمعنى المؤسسات فحسب، وتتجلّى بإقحام لبنان كدولة في النزاع الإقليمي- الدولي.

 

ووجهت 17 تشرين أيضاً بالمناورة كما بالعنف، وتمّ إسقاطها. ثم جرى إحباط الغضب الشعبي الذي أحدثه انفجار 4 آب، بالأسلوب نفسه. واليوم، بدأت منظومة السلطة تستعدّ ببرودة أعصاب لمواجهة استحقاقات 2022، بحيث لا «تُخربط» الستاتيكو القائم. ومن هذا المنظار، تُفهَم الخطة التي يجري تنفيذها منذ أشهر.

 

جوهر الخطة هو: إزاحة 17 تشرين و14 آذار نهائياً عن المسرح، بحيث لا تكون المواجهة بين حلفاء محور طهران وخصومه، بل تصبح بين الحلفاء في المحور نفسه. ولا تخشى منظومة السلطة عواقب الانقسام، لأنّ أقطابها مربوطون جيِّداً إلى «حزب الله»، وهو قادر على ضبطهم عندما تبلغ الخلافات سقفاً غير مرغوب فيه.

 

في حسابات بسيطة، لو كانت المواجهة في الانتخابات النيابية ستقع بين محور إيران وخصومه، لكان هذا المحور سيخسر بالتأكيد نسبة معينة من أصل الـ 128 نائباً. ربما يكون التوازن حينذاك في المجلس 60% مقابل 40% مثلاً، أو 30% مقابل 70% أو أكثر أو أقل. وفي أي حال، كانت ستنشأ كتلة لها وزنُها مقابل فريق السلطة.

 

أما الخطة الجاري تنفيذها اليوم فتعتمد المناورة، بحيث تبدو المواجهة بين حليفين داخل الفريق الواحد. وهذه المناورة ستتيح للحليفين أن يستقطبا الجماهير التي تنجذب إلى الشعارات والمخاوف الطائفية المفتعلة. وفي النهاية، الطرفان سيجمعان «الشارع»، كلّ من جانبه، ويجدِّدان لنفسيهما في السلطة، تحت مظلّة سياسية واحدة. ويجدر التأمّل في الوقائع الآتية:

1- ملف انفجار المرفأ صار بكامله في عهدة «التيار الوطني الحرّ» من خلال دعمه القاضي طارق البيطار. فإذا أوقف «التيار» هذا الدعم، بصفقةٍ سياسية أو لأي سبب آخر، سيصبح القاضي والملف في العراء.

2- في الساعات الأخيرة، طارت الورقة الوحيدة التي كانت 17 تشرين تُعبِّر بها عن نفسها، أي الشارع، وباتت المبادرة في أيدي السلطة.

3- ردَّ «التيار» بمحاولة وضع اليد على ملف حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، من خلال القاضية غادة عون. وهكذا، صار الملف جزءاً من المقايضات الممكنة داخل الفريق السياسي الواحد.

4- الحوار الذي دعا إليه الرئيس ميشال عون تحوَّل بسحر ساحر حواراً داخل فريق السلطة الواحد.

5- ثمة مَن يعتقد أنّ هذا الفريق نفسه يُمعن قصداً في «إزعاج» السعودية في لبنان، لتبتعد عن الساحة اعتراضاً، فتخلو لطرف إقليمي واحد هو إيران.

 

واستناداً إلى هذا التسلسل، يمكن أن يكون الفصل التالي من الخطة هو الآتي: وضع شارع مقابل شارع. وكلاهما تحت سقف سياسي واحد. فـ«التيار» يقول إنّ الشارع يحرّكه اليوم الرئيس نبيه بري للضغط على العهد، وقد يردُّ عليه بتظهير «شارعٍ مضاد» في «مناطقه». وهذا الواقع من شأنه ترسيخ «طائفية الشوارع». ولكن، لا بأس بشدِّ العصب ما دامت الأمور مضبوطة.

 

استطراداً، الآتي هو انتخابات نيابية، كلُّ عُدَّتها وعديدها «من حواضر البيت» الواحد، ولا تأثيرات فيها للخصوم. فقط، ستكون لـ«القوات اللبنانية» كتلة ذات وزن. وهناك أيضاً بعض الأصوات الاعتراضية المتفرقة في المجلس سنّياً ومسيحياً. ولكن، المجلس الحالي يضمّ تركيبة من هذا النوع، فما الذي استطاعت أن تفعله المعارضة؟

 

وعلى الأرجح، سترحّب قوى الأكثرية بـ«التنويع» في المجلس ما دامت فاعليته ضئيلة. بل إنّ وجود المعترضين سيقدّم البراهين بأنّ الانتخابات كانت حرَّة ونزيهة وراعت قواعد الديموقراطية.

لقد صادر أركان المنظومة مؤسسات الدولة وقرارات الحرب والسلم وعلاقات لبنان العربية والدولية. وهم الآن يصادرون بقايا غضب الشارع، ومعه بقايا 14 آذار و17 تشرين و«مَن لَفَّ لَفَّهما».