من الواضح، خصوصاً في ضوء البيان الأخير الذي صدر عن مجموعة الدعم الدولية من أجل لبنان أنّ هناك إصراراً دوليّاً على إجراء الانتخابات النيابيّة في موعدها. يعكس هذا الإصرار رغبة واضحة في تفادي مزيد من التدهور في البلد والرهان في الوقت ذاته على أن الانتخابات وسيلة لإحداث تغيير نحو الأفضل على طريق التخلّص من المعادلة التي تتحكّم بلبنان والتي أدت إلى خرابه. هل الانتخابات هي الحلّ أو مدخل للحلّ، خصوصاً في ظلّ هيمنة سلاح “حزب الله”، أي سلاح إيران على البلد؟ هل تنفع الانتخابات في ظل سلاح الحزب؟
جاء في البيان الذي أصدرته المجموعة التي تضمّ ممثلين عن الأمم المتحدة وحكومات الصين وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والاتحاد الروسي والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية: “… وإذ تثني مجموعة الدعم الدولية على البيان الصحافي الصادر عن مجلس الأمن في 4 شباط – فبراير 2022، وتستذكر بياناتها السابقة، فإنها تدعو مجدداً لإجراء انتخابات حرة ونزيهة وشفافة وشاملة في موعدها المحدّد في 15 أيار – مايو 2022”.
يتجاهل البيان، الذي يأتي بعد كلام واضح للسفيرة الأميركيّة دوروثي شاي في شأن الانتخابات وضرورة إجرائها أنّ ثمّة أسئلة من نوع آخر تطرح نفسها في لبنان في هذه المرحلة الدقيقة التي يمرّ فيها البلد. يمرّ لبنان بأزمة وجوديّة تتجاوز ما يمكن تسميته بأزمة نظام أدّى واجبه للعلى بعدما صار البلد تحت سيطرة “حزب الله”. ما على المحكّ مصير البلد وهل لا يزال قابلاً للحياة…
في مقدّم الأسئلة التي يصلح طرحها يتجاوز إجراء الانتخابات النيابيّة في موعدها المقرّر في 15 أيّار –مايو المقبل. يعود ذلك إلى أنّ “حزب الله” لن يفقد الأكثرية في مجلس النواب الجديد. لن يفقد الحزب، الذي ليس سوى لواء في “الحرس الثوري” الإيراني، الأكثريّة في ظل القانون الذي تُجرى الانتخابات على أساسه. إنّه قانون عجيب غريب يناسب الحزب، وقد وُضع على قياسه. أقرّ القانون قبيل انتخابات 2018 وذلك كي يتمكن قائد “فيلق القدس” قاسم سليماني من الإعلان لاحقاً بوقاحة، ليس بعدها وقاحة، أن إيران باتت تمتلك “أكثريّة” في البرلمان اللبناني.
ما يمكن أن يدعو إلى التساؤل هل تتأجّل الانتخابات بسبب وضع “التيّار الوطني الحر”، حزب الثنائي الرئاسي ميشال عون –جبران باسيل؟ يعاني التيّار مشكلة حقيقية في ضوء هبوط شعبيته بين المسيحيين. مثل هذا الهبوط يُهدّد جبران باسيل الباحث عن تحالفات جديدة تمكّنه من المحافظة على مقعده النيابي. اضطر باسيل، أخيراً، إلى إرسال وفد إلى دمشق كي يطلب من النظام السوري الضغط على زعيم تيار المردة سليمان فرنجية وإقناعه بدعمه.
زاد وضع باسيل سوءاً مع القرار الشجاع الذي اتخذه سامي الجميّل رئيس حزب الكتائب بدعم المرشّح مجد بطرس حرب في البترون حيث للكتائب قاعدة كبيرة تقليدياً، خصوصاً في المنطقة الوسطى من القضاء.
سيعود الأمر في نهاية المطاف إلى “حزب الله” الذي عليه أن يقرّر هل همّه الأوّل الحصول على الأكثريّة في مجلس النوّاب فقط… أم أن المطلوب أيضاً استرضاء غطائه المسيحي، أي “التيّار العوني” الذي يعاني من حال تراجع أمام “القوات اللبنانيّة” ورئيسها سمير جعجع أوّلًا و”الكتائب اللبنانية” ثانياً.
الى أي حدّ سيحمل “حزب الله” العونيين على كتفيه في المرحلة المقبلة في وقت عليه التفكير في الوقت ذاته في كيفية استرضاء حاضنته الشعبيّة الشيعيّة التي بدأت تعاني بدورها من ممارسات “العهد القويّ” ومن نتائج فرض صيغة “السلاح يحمي الفساد” لسنوات طويلة على البلد؟. أدت هذه الصيغة إلى إفلاس لبنان ومعظم اللبنانيين، بمن في ذلك قسم كبير من الشيعة، بعدما فقد البلد كلّ المقومات التي في أساس وجوده منذ إعلان قيام “لبنان الكبير” في العام 1920.
فشل “حزب الله” في نقل تجربته الشيعية إلى عند المسيحيين. استطاع تشكيل ما يُسمّى “الثنائي الشيعي” مع حركة “أمل”. أثبت يوماً بعد يوم، منذ حرب إقليم التفاح في مطلع تسعينات القرن الماضي أنّه صاحب الكلمة الأولى والأخيرة شيعياً. لم يتكرّر المشهد نفسه مسيحياً بين “العونيين” و”القوات” على الرغم من اتفاق معراب المشؤوم والشعار التافه “أوعا خيّك” الذي رفع في حينه… وعلى الرغم من التاريخ الدموي بين الجانبين، وهو تاريخ يتحمّل مسؤوليته ميشال عون نفسه أكثر بكثير من سمير جعجع.
ليس سرّاً أنّ “حزب الله” لن يكون مرتاحاً في مجلس النوّاب الجديد، على الرغم من احتمال تسجيله لاختراقات سنّية ودرزيّة، في حال وجود أكثريّة مسيحية واضحة تواجه هيمنته على لبنان.
يمكن لهذا الافتراض أن يكون كافياً كي يساير الحزب توجّه ميشال عون وجبران باسيل إلى تأجيل الانتخابات من زاوية أن المطلوب مزيداً من الوقت من أجل الاستعداد لها بطريقة أفضل، أقلّه مسيحيّاً.
أكثر من ذلك، يعتقد الثنائي الرئاسي أن رياح أي اتفاق أميركي –إيراني ستخدمه وستخدم حليفه الجديد – القديم، أي النظام السوري. من هذا المنطلق، يرى أنّ خياره الوحيد من أجل إنقاذ المستقبل السياسي لصهر رئيس الجمهوريّة تأجيل الانتخابات والعمل على الاستفادة من أجواء إقليميّة أفضل تصب في مصلحة “الجمهوريّة الإسلامية“ التي أوصلت ميشال عون إلى قصر بعبدا في اليوم الأخير من تشرين الأوّل –أكتوبر من العام 2016.
يبقى أنّ ثمة أملاً وحيداً للبنان يمكن أن تحمله الانتخابات. يكمن هذا الأمل في أن تكون الانتخابات مدخلاً للتغيير الذي يبدأ من فوق، أي في ذهاب ميشال عون إلى بيته في نهاية ولايته الرئاسيّة في آخر تشرين الأوّل –أكتوبر المقبل. كان الفراغ أفضل من التسوية الرئاسية التي أوصلت ميشال عون إلى قصر بعبدا. كان يمكن للفراغ أن يطرح قبل ست سنوات السؤال الذي يهرب منه لبنان في ضوء وقوعه تحت الهيمنة الإيرانيّة: هل البلد لا يزال قابلًا للحياة أم لا… أم الحاجة إلى صيغة جديدة لم يُعثر بعد على خطوط عريضة لها باستثناء البدء باللامركزيّة الموسّعة؟