على مسافة أيام من إقفال باب الترشيح الى الانتخابات النيابية، يتقلّص هامش المناورات لدى الماكينات الانتخابية يومًا بعد يوم، وصولًا الى المهلة الاولى لتقديم السلّة الأولى من الترشيحات الفضفاضة، قبل إعادة النظر فيها خلال مهلتي سحب الترشيحات، قبل أيام على تشكيل اللوائح. وعليه سيتحوّل شهر «آذار الهدّار» مسرحاً للمفاجآت الانتخابية كما التقلّبات المناخية. وعليه، كيف السبيل الى قراءة المشهد الانتخابي وإصدار اللائحة النهائية بضحاياه؟
وفق قانون الانتخاب، أمام الماكينات الانتخابية 12 يومًا لتقديم الترشيحات (15 آذار 2022)، لكل من يرغب في خوض الاستحقاق الإنتخابي لدورة 15 ايار 2022، و27 يومًا للعودة عنها واستعادة رسم الترشيح (ليل 30 آذار – 1 نيسان 2022) و31 يومًا من أجل تشكيل اللوائح الانتخابية (ليل 4-5 نيسان المقبل)، التي ستخوض السباق في الدوائر الإنتخابية الـ15. وهي مهلة كافية لتظهر الصورة النهائية للمعركة الانتخابية وبدء الرسم الاستباقي لخريطة الكتل النيابية في المجلس النيابي الجديد، الذي تنتظره مهمّات بالغة الدقّة في الأشهر التي تلي إقفال صناديق الاقتراع، لتبدأ مسيرة البحث عن الحكومة الجديدة وشكلها، والاستعداد لخوض الاستحقاق الرئاسي، في مهلة تنتهي في 21 تشرين الاول المقبل، تاريخ نهاية ولاية الرئيس ميشال عون.
ولأكثر من سبب، وعلى أكثر من مستوى، اكتسبت المعركة الانتخابية لهذه السنة نكهة خاصة، ميّزتها عن الدورات السابقة. فالأزمة الاقتصادية والنقدية ألقت بظلالها على كل مظاهرها، على الرغم من أنّها ستكون مناسبة لظهور الدولارات النقدية، سواء تلك التي تمّ تهريبها الى الخارج وحان أوان استعادتها، أو تلك التي دخلت خزنات القصور والبيوت على حدّ سواء، في انتظار رصد ما يمكن ان يدخل الى البلاد من «محفظات مالية» عدًا ونقدًا. ولذلك سيكون متوافرًا لدى بعض المراجع المتخصصة تقدير أحجامها، وخصوصًا تلك المكلّفة مهمّة رصد مصادرها الاقليمية والدولية، وإثبات قدرتها على إحصاء كل شاردة وواردة، لتبيان ما هو قانوني وشرعي منها وما يدخل في مجال غسل الأموال وتبييضها.
فقد كانت الحاجة ماسّة الى إنهاء التقديرات السابقة بحجم الأموال المخزّنة او تلك التي خرجت من لبنان، والتي تراوحت التقديرات في شأنها بفوارق خيالية وغير منطقية. وهو ما ترجمه الحديث على لسان المستشارين الماليين والمصرفيين الكبار مع بداية الأزمة، عن وجود 4 مليارات من الدولارات بالحدّ الأدنى في خزنات القصور والبيوت، وصولًا الى الحديث عن 10 مليارات كحدّ أقصى. وكل ذلك جرى في ظل غياب التقارير التي كان على بعض المؤسسات المصرفية والمالية الرقابية الكشف عنها بشفافية، لتبرير ما بلغته الأزمة النقدية من انهيار مريع في فترة قياسية، وتقدير حجم الفجوة المقدّرة في مصرف لبنان والقطاع المصرفي. ومردّ ذلك، إلى ما شهدته البلاد نتيجة التجاذبات السياسية التي أفقدت المراجع المالية والنقدية المعنية الثقة التي كان يحظى بها هذا القطاع على مدى العقود الماضية قبل انهياره، في انتظار كشف كثير من الحقائق الغامضة إن تحقق ذلك بشكل من الأشكال؟
وإلى هذه المعطيات المادية التي تتحكّم بالعملية الانتخابية ومراحلها الدستورية والقانونية، تتجّه الأنظار الى الوجوه السياسية التي ستقود المعركة الانتخابية، وما ترافقها من اعتبارات تتحكّم بشكل ومضمون التحالفات المقدّرة التي فرضتها المواقف المفاجئة للرئيس سعد الحريري وسقوط بعض التحالفات التقليدية، والموجة التي تسببت بها «الطحشة» التي قامت بها «القوى التغييرية»، وما تسببت به من قلق لدى بعض الجهات الحزبية التي اهتزت قواعدها لألف سبب وسبب. عدا عن تلك الظروف التي فرضت إعادة نظر شاملة في تحديد هوية المرشحين ومؤهّلاتهم لخوض السباق، وما رافقها من سوء تقدير للأحجام وخلافات، حالت دون توحيد قواها في كثير من الدوائر الانتخابية.
ثمة من يعتقد، انّ هناك ما دفع إلى مواجهات من نوع جديد. فالتقديرات التي خرجت بها شركات الإحصاء عند التدقيق في قياسها للمزاج الشعبي، جعلت السباق محمومًا إلى اجتذاب فئات واسعة من اللبنانيين، تخلّت عن انتماءاتها الحزبية والسياسية، ونتيجة اعتكاف قوى حزبية كبرى، فأدخلت ما يتراوح بين 43 و57 % من الناخبين الى المنطقة الرمادية، عدا عمّا عكسته نسبة المنتشرين الذين تسجّلوا للمشاركة في الانتخابات من دول الانتشار، برقم قياسي بلغ 225114 ناخبًا يتوزعون على 59 دولة في العالم، بنسبة اضافية بلغت 172% عن انتخابات العام 2018. وجعلت من الصعوبة بمكان قياس مزاجها الانتخابي وسط إحصائيات غامضة عن حجم من يستطيعون بلوغ مراكز الاقتراع في العالم، لقياس حجم التغيير المتوقع بأصواتهم، وخصوصًا في بعض الدوائر الحساسة.
وإلى هذه المعطيات، لا يتجاهل المراقبون لسير العملية الانتخابية ما ستتركه التغييرات المتوقعة في ترشيحات بعض الكتل النيابية الكبرى، فكل التوقعات تشير الى انّ، ومع سقوط رموز من بعضها، سيزيد الغموض حيال النتائج المرتقبة. فكل المعلومات تشي بأنّ كتلًا نيابية حاولت إعادة النظر بمرشحيها ولم تفلح، فيما سيُقدم آخرون على إجراء تغييرات كبيرة في الايام المقبلة، لسدّ بعض الثغرات التي تسبب بها فشل نوابهم في الحفاظ على قواعدهم في مناطقهم، او لحسابات انتقامية داخلية. ولا ينسى البعض التوجّه الى إضافة بعض «المليارديرية» إلى بعض اللوائح لأسباب مالية وأخرى استباقية تتصل بالمرحلة السياسية والنيابية اللاحقة، واستحقاقات مهمّة، عدا عن تلك التي فرضها اعتكاف وعزوف رئيس تيار»المستقبل» ونوابه عن المشاركة في الانتخابات اقتراعًا وترشيحًا، وما تركه من اهتزازات شعبية في بعض الدوائر والأوساط السياسية والحزبية.
وبناءً على ما تقدّم، يبدو للبعض انّ شهر «آذار الهدّار» بأيامه ولياليه، سيشهد إلى جانب تقلّبات الطقس ما يشبهها من «اهتزازات» في بعض الكتل النيابية ولوائحها. ولكن المِهل القصيرة الفاصلة عن اللحظات الحاسمة وصدور القرارات الصعبة لن يطول انتظارهما. فالإستحقاق على الأبواب ومعه سيتظهّر كثير من النيات المبيتة بين أهل البيت قبل الحلفاء وحلفاء الحلفاء، وتلك التي فرضتها ظروف المعركة. وإن ظهر الحماس لدى البعض لتبرير كل ما سيُرتكب من آثام في العملية الإنتخابية، فإنّ بعضهم لا يبدو متأثرًا بما سيناله برضاه او غصبًا عنه، فشعاره «ليقوم كل واحد منا بمهماته إن جرت الانتخابات في مواعيدها، سيكون لكل مقام مقال»..