«بكى صاحِبي لَمّا رَأى الدَربَ دونَنا وَأَيقَنَ أَنّا لاحِقانَ بِقَيصَرا فَقُلتُ لَهُ لا تَبكِ عَينَكَ إِنَّما نُحاوِلُ مُلكاً أَو نَموتُ فَنُعذَرا» منسوب لعمرو بن قميئة
من المنطقي أن يتساءل الإنسان الأسمر، أو الأقل بياضًا في بشرته، عن سر مكنون ما قاله إعلاميون غربيون، من مدعي الليبرالية والإنسانية العابرة للحواجز العنصرية، في حمأة الحرب التي يشنها بيض وشقر على بيض وشقر آخرين في أوكرانيا! فالمكنون العنصري الموروث ما زال ينضح من بين شقوق الذاكرة الجماعية، لشعوب ظنت أنها تحمل وحدها إرث الإنسان العاقل، فيما الآخرون يرثون سمات قردية. لا شك أن الحداثة أجبرت الكثيرين على كبت هذا المكنون، وقد نصل بعد بضعة أجيال إلى تناسيه ربما، فالعنصرية ستتحول حتمًا إلى من لديهم القدرة على الولوج إلى الإنسان المستقبلي المهجن بكل ما للتكنولوجيا من قدرات، أكانت ذكاءً اصطناعيًا أو تكنولوجيا النانو أو الهندسة الجينية، أو كلها معًا. البشرية غدًا وقريبًا ستلج هذا النوع من الصراعات، ومن يدري؟ فقد يكون اللون المفضّل لمهندسي الإنسان هو الأسمر أو الأسود أو الحنطي بدل اللون الأبيض الباهت، فيكون إنسان المستقبل على شاكلة «شاكيل أونيل»، بطل كرة السلة، مع تعديل في قدراته الذهنية ليلعب الشطرنج السريع إضافة إلى كرة السلة بدل موديل «روجيه فيديرير» السويسري المتفوق فقط بكرة المضرب؟ أو «ويل سميث» الممثل العبقري الأسود بدل «براد بيت» الأشقر؟ فلم يحدد صانعو الإنسان الآتي المتفوق حتى الآن لون إنسانهم. فقد تكون جينات القوة الجسدية مرتبطة باللون الأسود الحالك معززة بالذكاء الاصطناعي الذي يبدو أكثر صلاحية من ادعاء الذكاء الفطري عند البيض؟
ما لنا ولكل ذلك الان، فصناع القرار القابضون على ناصية العالم لا يتخذون خياراتهم إلا بناءً على مصالح تتخطى اللون والدين، مع إمكانية استعمال اللون والمعتقد كأداة في الصراع عند اللزوم. ما يهمنا اليوم نحن في لبنان الحائرون في لوننا والمتعددين في أدياننا، هو أن ما يحدث عند البيض المتصارعين، سينعكس حتمًا سلبًا على أوضاعنا، بغض النظر عن نتائج الصراع القصيرة والطويلة الأمد. فمنذ يومين فقط شاهدت «أنطوني غريفيث»، وهو الزائر المتكرر للبنان مبعوثاً من الأمم المتحدة، يقول في اجتماع خاص للشؤون الإنسانية في مجلس الأمن بأن لبنان سيعاني بشكل مباشر وخاص بسبب الأزمة الأوكرانية. مشكور غريفيث بالطبع وهو حسبما يبدو أكثر نباهة وشفقة على لبنان من السلطة في لبنان وهي المختلفة اليوم على أي مخدة تنام، حتى في قضية تقاطر العالم لشجبها وهي قضية أوكرانيا. لا بأس رغم كل ذلك، لكن تصوروا اليوم لو أن لبنان كان منذ سنوات تخطى التفاهات والمزايدات، وبدأ بإنتاج الغاز، لكان صنع من الأزمة الحالية فرصة ذهبية تعيد له وحدها عزته وكرامته، بدل الكلام الرعدي الفارغ الذي يطلقه نصر الله حول الاستشهاد والموت والفقر والذل المفروضين على البيض والسمر في هذا البلد.
الواقع هو أننا فقدنا بسبب وهم النصر والاستشهاد فرصًا عديدة منذ اتفاق القاهرة. فقدنا فرصة فورة أسعار النفط سنة 1973، عندما كان لبنان قبلة الاستثمارات في الشرق الأوسط، وفقدنا أعمار أبنائنا في الحرب الأهلية، وفقدنا فرصة السلام من مؤتمر مدريد بسبب الرؤوس الحامية التي تشجع وتمجد الاستشهاد، أكان في إسرائيل أم في فلسطين أم لبنان… وفقدنا فرصة وجود رفيق الحريري والمساعدات والمشاريع العديدة التي اخترعها من أجل عزة أبنائنا بالتخرج من الجامعات بدل الاستشهاد من أجل أن يخرج قائد من وراء شاشات عملاقة، يطرب بهتافات «لبّيك» و«فدا رجليك» ليدعو الشباب إلى الموت، وهو مختبئ تحت سابع أرض!
هذا ما هو حاصل الآن، لكن ماذا عن مأساة البيض المستجدة ومحنة السمر المستدامة؟ منذ أيام اجتمعت بمسؤول رفيع في الأمم المتحدة. كان السؤال عن الانتخابات وقضية اعتكاف الساحة السنية عنها، بقرار من رئيس تيار المستقبل. ناقشنا الأسباب الموجبة والمحاذير الناجمة عن الاعتكاف أو المشاركة، ما ظهر منها وما هو محتمل من المُستِتر. بالنهاية، أكد المسؤول أن الاستحقاق يجب أن يحصل في وقته، بغض النظر عن النتائج. فقلت ان هذا يعني تأكيد سيطرة «حزب الله» على القرار السياسي والأمني لمصلحة إيران، بظل قرار الرئيس الحريري واحتمال انخفاض الحاصل الانتخابي عند السنّة. فقال عليكم إقناع الرئيس الحريري بدعم لوائح لرفع الحاصل الانتخابي ومنع الحزب من المزيد من السيطرة. ثم أضاف أن أزمة أوكرانيا جعلت من أمر لبنان وإيران في أدنى سلمّ الأولويات الدولية الآن، بالتالي، فإن الولايات المتحدة الأميركية قد تذهب إلى اتفاق مع إيران بداعي تحييدها، وربما بسبب الحاجة لها لتعويض النقص في الطاقة على المدى الطويل لاحتمال حرب باردة جديدة. هذا سيجعل من إيران حرّة طليقة في المنطقة من جديد، وقد تدخل دول الخليج في التفاهمات الدولية، على أن يُدفع الثمن في اليمن بشكل يناسب أمن السعودية. من هنا، فإنّ الرابح في الانتخابات سيتم التعامل معه على هذا الأساس، خاصة إن كان قد حصل على الشرعية الدستورية. ما قلته هو أنني أظن أنه محاولة جديدة من المجتمع الدولي لترك لبنان لمصيره بحجة نتائج الانتخابات. يعني الاعتراف بشرعية الحرس الثوري وسيطرته على لبنان، على الأرجح بتفاهم ما مع إسرائيل، يدخل من ضمنه تقاسم للغاز الموعود!
الواقع هو أن المتغطرس، الذي بدا من دون تحفظ الآمر والناهي على كل شيء في لبنان، يدرك تمامًا تلك الاحتمالات، فتوجيهات حائكي السجاد الإيرانيين تعلم بها، وتخطط لها للكسب على حساب الجميع، من العراق إلى سورية الى لبنان، إلى اليمن، التي سيدرك حوثيوها عندها، كما الجميع، بأنّ تباكي الرعد عليهم ما كان إلا جزءًا من المقلب الإيراني. آلاف الشهداء الذين سقطوا، وهم يظنون أنهم يحملون في ثنايا أكفانهم شهادات الطريق إلى النعيم، سيدرك أهاليهم بأنهم كانوا أدوات للتسويات مع أعداء يتحولون فجأة إلى شركاء في المصالح الاستراتيجية، وقد يخترع عندها القائد مسوغات تؤكد أن دماء الأبناء لم تذهب هباءً منثورًا، وان أميركا وإسرائيل قد أُجبرتا على الرضوخ، وقد يصدق الأهل كل شيء.
لقد شهدنا منذ ايام تداعيات نشر ثقافة الموت من أجل اسطورة، بعد أن تحوّل معرض الكتاب البيروتي العريق، صرح الثقافة والحرية، إلى معرض لنشر ثقافة التخلف العقائدي، رافعًا رايات وصور رواد القتل والدمار، كقديسين لعصر الظلمات الزاحف نحو عاصمة الانفتاح والتعدد لإغلاقها وإغلاق عقول أبنائها بالاستسلام لمصيرهم.
من هنا، فإن الانكفاء والتسليم والانسحاب يعني الاستسلام من دون مقاومة، ونحن لن نسلم بذلك.