الاهتمام الداخلي اللبناني منصبّ على «دوشة» الانتخابات النيابية والحملات الاعلامية المترافقة معها، والتي ترتكز على إثارة الخطابات الغرائزية بهدف التعبئة وشدّ العصب تمهيداً لمبارزة 15 ايار. لكنّ الاهتمام الخارجي مختلف، فهو يحضّر ملفاته لما بعد 16 ايار الى درجة انه يصح اعتبار مرحلة ما بعد الانتخابات مرحلة ترتيب واقع سياسي جديد على أنقاض الدمار الذي طاولَ مؤسسات الدولة اللبنانية طوال السنوات الماضية، وبالتالي اعادة بناء الهيكل اللبناني على أسس جديدة لمواكبة السنوات وربما العقود المقبلة.
خلال الاسابيع الماضية أظهَر التنافس الانتخابي الحامي والملتهب مؤشرين اساسيين: الاول وهو تناحر وتشتّت اللوائح التي صنّفت نفسها معارضة او تغييرية او «ثورية»، ما أنتج ضعفاً لها وسط برودة غربية في الرهان على امكانية ترجمة وقوف السواد الاعظم من اللبنانيين ضد المنظومة السياسية في صناديق الاقتراع. وبَدا للعواصم الغربية المعنية بالملف اللبناني أنّ عدم الجدية التي ظهرت إنما هي ناتجة من عدم نضج في طريقة مقاربة المتغيرات الشعبية الحاصلة والتعاطي مع التحولات الحاصلة بأسلوب المراهقين وليس الناضجين.
اما المؤشر الثاني فهو نجاح «حزب الله» في ادارة ملف الانتخابات وتحويل الوضع لصالحه رغم المأزق الكبير الذي يحوط بعدد من حلفائه. فعلى الساحة المسيحية يندفع «حزب الله» لتأمين مقاعد بالجملة لحليفه «التيار الوطني الحر»، ومتجاوزاً الحساسية القائمة بين التيار وحركة «امل». وفي الوقت الذي باشَر حملة التعبئة الى حدها الاقصى، إندفع في اتجاه الساحة السنية وهو يعمل على استثمار قرار انسحاب الرئيس سعد الحريري ومعه تيار «المستقبل» لمصلحة حلفاء «حزب الله» على الساحة السنية، وهو ما سيؤدي الى تعزيز كتلة حلفائه داخل المجلس النيابي المقبل، وصولاً الى اعادة تثبيت غالبيته النيابية مرة جديدة.
صحيح ان الغالبية النيابية التي امتلكها «حزب الله» منذ العام 2018 لم ينتج منها اي مسّ بالخطوط الحمر او اي صدام جدي مع العواصم الغربية، الا أنّ الظروف السائدة في هذه المرحلة تبدو مختلفة.
وصحيح ايضا ان باريس التي تتابع تفاصيل الملف اللبناني بتأييد وتكليف من واشنطن، تقوم بالتواصل المباشر مع «حزب الله» من خلال سفيرتها في بيروت ومسؤول العلاقات الخارجية في الحزب النائب السابق عمار الموسوي، الا انها في الوقت نفسه مارست جهوداً لإعادة السعودية الى لبنان.
فالمطروح بعد الانتخابات النيابية مؤتمر للبحث في الازمة اللبنانية في باريس، والذي من المفترض ان يشهد تعديلات في بعض المواد الدستورية لا تطاول اساس الدستور.
وفي المقابل من المنطقي الاعتقاد أنّ ترسيم الحدود البحرية ومن ثم البرية سيعنيان وضع خيار الحرب مع اسرائيل جانباً، وبالتالي سيطلب «حزب الله» مقابل ذلك المواقع الاساسية في السلطة من خلال صوغ دستور جديد.
لكن الحسابات الغربية مختلفة، فالحرب في اوكرانيا فرضت تعديلا في الاستراتيجيا الاميركية التي كانت قد رسمت على اساس اولوية احتواء التمدد الصيني في العالم، وترك الملف الروسي لاحقاً. ولكن التعثر العسكري الروسي في اوكرانيا فتح الباب امام تعديلات إلزامية قضت بإعطاء الاولوية لإعادة ترتيب البيت الاوروبي.
تكفي الاشارة الى القرار بزيادة عديد القوات الاميركية في اوروبا من 63 الف جندي وضابط الى نحو 100 الف. وكذلك في رفع الموازنات العسكرية للدول الاوروبية بنسَب مرتفعة وتعزيز وضع حلف «الناتو». وكذلك اعادة الاهتمام بحقول النفط البرية والبحرية في الشرق الاوسط وتكليف مصر بدور أوسع الى جانب اسرائيل في البر والبحر. ولا بد من رصد خلفيات الموقف التركي بتعيين سفير في القاهرة بعد شغور دامَ نحو تسع سنوات يوم وصول عبد الفتاح السيسي الى السلطة إثر إطاحته الرئيس «الاخونجي» الراحل محمد مرسي. وهو ما يعني انّ البحر الابيض المتوسط يجب ان يستعيد دوره كبحيرة نفوذ لدول حلف شمال الاطلسي. وللساحل اللبناني اهميته في هذا المجال وهو المجاور للقاعدة البحرية لروسيا في طرطوس.
وبالتالي، فإنّ النظام السياسي في لبنان ووفق هذه الحسابات لا يحتمل أي تعديل في جوهره كونه سيؤدي الى تعديل في نفوذ القوى الاقليمية، ولا سيما منها ايران على الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط.
وهنالك من يفسّر الانكفاء الفرنسي عن واجهة التحضيرات للانتخابات النيابية المقبلة، في إطار عدم اثارة حفيظة «حزب الله» الذي يتواصَل مع باريس بنحو دائم. وبالتالي لا بد من بديل يهتم باستعادة التوازن مع «حزب الله» على الساحة اللبنانية وهو السعودية، وتحت عنوان حماية اتفاق الطائف من اي تعديل جوهري واساسي.
وتروي اوساط مطلعة أن السعودية ترددت كثيراً قبل ان تحسم خيارها بالعودة «الفاعلة» الى لبنان. فعَدا عن تركيزها على الملف اليمني وحماية عمقها الامني ومصير الملف النووي الايراني، فإنّ ثمة رأياً ظهرَ بوجوب الحذر من الدخول في متاهة الانتخابات اللبنانية كون أي فشل سيصيب نتائج الانتخابات سيرتد سلباً ومباشرة على السعودية.
لكنّ الرأي المؤيّد لهذه العودة هو الذي غَلب في نهاية المطاف، وعلى اساس انّ تكريس نتائج الانتخابات للخلل في التوازنات قد ينعكس سلباً على المؤتمر المزمع عقده حول الازمة اللبنانية في باريس، والذي سيبحث في التعديلات الدستورية.
أضِف الى ذلك وجود مخاوف من احتمال الذهاب الى حكومة من لون واحد للاشهر الاخيرة من عهد عون ومرحلة الفراغ الرئاسي في حال فوز فريق «حزب الله» بالغالبية النيابية مرة جديدة، وهو ما يعني انّ مؤتمر باريس سيحصل في ظل حكومة اللون الواحد، التي قد تصبح «مدة خدمتها» مفتوحة وليست قصيرة.
لكن البعض يرى في هذا السيناريو مخاوف مُبالغ بها، فرئيس كتلة «الوفاء للمقاومة» النائب محمد رعد كان قد حملَ رسالة واضحة عندما قال انّ البلد لا يمكن ان يحكمه فريق واحد، بل انه قائم على مبدأ المشاركة.
اضف الى ذلك انّ إقرار الاتفاق النووي من المفترض ان يقلّل من مستويات التشنج السياسي في لبنان، بينما الترجيحات تتوقع بأن تتصاعد هذه التشنجات في العراق وليس في لبنان.
ومن هنا ايضاً يمكن تفسير تعديل الموعد الذي حدّده رأس الكنيسة الكاثوليكية لزيارة لبنان، فبعدما كانت الترجيحات تشير الى احتمال حصول هذه الزيارة في الخريف المقبل، جاء اعلان قصر بعبدا عن حصولها في حزيران بمثابة تعديل زمني ملفت.
ولا شك في أنّ حسابات موعد الزيارة تخضع للرؤية العامة في المنطقة، خصوصاً انّ قداسة البابا فرنسيس دأبَ خلال المراحل الماضية على اظهار قلقه العميق حيال لبنان ووجوده والحفاظ على صيغة التعايش فيه. وبَدا واضحاً انزعاج الفاتيكان من طريقة اعلان موعد هذه الزيارة، والتي تهدف الى توظيفها في إطار ملعب المكاسب السياسية الداخلية والانتخابية الضيقة، بَدل التطلّع الى المخاطر الكبرى الموجودة وتجاوز الحسابات الصغيرة والضيقة. فالأجدر الالتفات الى اللعبة الكبرى بدل التلهي بالألاعيب الصغرى.