لم تعد المدة الفاصلة عن موعد الانتخابات النيابية سوى نحو أسبوعين. وفي الواقع، ستبدأ العملية الانتخابية قبل ذلك، مع فتح صناديق الاقتراع في الاغتراب. وعلى الرغم من ذلك، سؤالان ما زالا يتصدّران اهتمامات المتابعين:
السؤال الاول، ويتعلق بالمعزوفة ايّاها منذ اكثر من سنة، وهي: هل ستجري الانتخابات في موعدها؟ اما السؤال الثاني، فله علاقة بالدعم السعودي المنتظر، خصوصاً انّ تأثير الرياض لم يغب على الإطلاق على الاقل منذ انتخابات العام 2005 بعد حصول الانسحاب العسكري السوري من لبنان، ولو بنسب متفاوتة. أضف الى ذلك، الفراغ الهائل الذي تعيشه الساحة السنّية منذ خروج الرئيس سعد الحريري ومعه تيار «المستقبل» من الحياة السياسية، وحال الضياع الذي تعيشه القوة الناخبة السنّية إزاء استحقاق اساسي كالاستحقاق النيابي.
أما بالنسبة الى السؤال الاول، والذي يبدو انّه سيظل يلاحق اللبنانيين حتى لحظة فتح صناديق الاقتراع، فإنّ الأحداث التي حصلت رفعت من منسوب التشكيك، على اساس انّ ما يحصل لا يمكن ان يكون مصادفة، وانّه يؤشر الى التمهيد لتأجيل الانتخابات، ولو قبل ايام معدودة من موعدها.
لكن في الواقع، فلقد غاب عن بال هؤلاء انّ نتيجة هذه الأحداث، وفي طليعتها حادثة غرق الزورق في شمال لبنان، انما تعطي دليلاً واضحاً الى أنّ الانتخابات حاصلة. فما بين اشتباكات بيروت وصاروخ الجنوب «الغريب»، وغرق الزورق وما تلاه من توترات على الارض، لم تظهر على السطح ولا في الكواليس، أي نية لاستغلالها وتوظيفها في اتجاه إجهاض المناخ الانتخابي. والمقصود هنا، أنّه لم تندفع الجهات القادرة على العرقلة في اتجاه توسيع حال هذه التوترات وتحويلها الى اشتباكات، والسعي الى نقلها الى مناطق اخرى في الشمال. ولو حصل ذلك، لكان من الممكن القول إنّ تهديداً جدّياً بدأ يحوط بإمكان إتمام العملية الانتخابية.
المجموعة الاوروبية ومن خلفها الاميركية المهتمة بإجراء الانتخابات النيابية، كانت تدرك جيداً أنّ معظم القوى السياسية لا تريد إجراء الانتخابات بسبب الخسائر الشعبية التي مُنيت بها منذ اندلاع احتجاجات 17 تشرين. وفي آخر استطلاع لمؤسسة «الباروميتر» العربي، وهي مؤسسة أميركية، فإنّ أسباب الرغبة للهجرة في لبنان أعطت نسبة 44% للفساد و29% لأسباب أمنية، 22% لأسباب سياسية، 19% من أجل التعليم، و7% لأسباب اقتصادية.
وأشار الاستطلاع الى انّ حوالى 63% من الشباب اللبناني بين 18 و29 عاماً يرغبون في الهجرة، لانعدام الأمل في مستقبلهم. مع الإشارة الى انّ 61% منهم هم من حَمَلة الشهادات الجامعية.
لكن المجموعة الأوروبية كانت تدرك أيضاً، أنّ فريقاً واحداً قادر بالفعل على تأجيل الانتخابات وهو «حزب الله». وخلال التواصل الفرنسي مع قيادة «حزب الله» جرى منذ بضعة اشهر التطرق الى الملف الانتخابي. واعلن «حزب الله» التزامه بالمساعدة في حصول الاستحقاق النيابي وحمايته، طبعاً من ضمن التفاهم مع الفرنسيين حول الخطوط العريضة للمرحلة اللاحقة.
وفي موازاة ذلك، اعلنت اوروبا باستمرار، انّ من سيعمل على عرقلة الانتخابات النيابية سيتعرّض لعقوبات قاسية. والمقصود هنا بطبيعة الحال القوى السياسية الاخرى، والتي تشكّل الطبقة السياسية اللبنانية، والتي ستتضرّر كثيراً في حال معاقبتها، بخلاف «حزب الله» الذي «يعيش» خارج النظام المالي العالمي. وهو ما يعني انّ الاستحقاق النيابي سيحصل، الّا في حال طرأ حدث أمني كبير غير متوقع او محسوب.
أما بالنسبة الى العودة السعودية الى لبنان، فلا بدّ من قراءتها بتأنٍ وبالعمق. حتى الآن فإنّ حركة السفير السعودي لا تظهر وجود قرار بالانغماس الكامل بالعملية الانتخابية. هي تتراوح ما بين حدّين: الاول خلق مناخ يعطي دفعاً معنوياً للشارع السنّي للمشاركة في عملية الاقتراع. والثاني بعدم الدخول او التورط في التفاصيل المتعلقة بالأسماء والتحالفات والدعم بكل اشكاله.
صحيح انّ العودة تزامنت مع التحضيرات الانتخابية، وبالتالي من المنطقي الربط بينهما. الّا انّ السعي الفرنسي ومعه تشجيع مصري غير ظاهر للعودة السعودية، كان الهدف منهما ربما تثبيت التوازنات الاقليمية داخل المعادلة اللبنانية، على ابواب المبادرة الفرنسية ـ الاوروبية، لإنجاز تسوية للأزمة اللبنانية من خلال مؤتمر سيُعقد هذا الصيف وسيطاول تعديلات دستورية تحرص باريس ومعها واشنطن على ان لا تطاول جوهر «اتفاق الطائف».
العودة السعودية الهادئة الى الساحة اللبنانية لها، إضافة الى الدفع الفرنسي، رؤيتها وأسبابها الخاصة.
منذ ايام معدودة عُقدت الجولة الخامسة من المحادثات السعودية ـ الايرانية. ايران وصفت نتائج هذه الجولة بـ»الإيجابية» وبأنّها «متقدّمة»، فيما لاذت السعودية بالصمت ولم تعلّق.
ايران تحدثت عن انّ المحادثات تركّزت حول موسم الحج، مع ما يعني ذلك رفع أعداد «الكوتا» للحجاج الايرانيين. لكن من السذاجة الاعتقاد بأنّ المحادثات اقتصرت على هذه النقطة فقط، وسط كلام يدور في الأروقة الديبلوماسية عن انتهاء المفاوضات الامنية والانتقال الى المفاوضات الديبلوماسية في الجولة المقبلة.
والجولة الخامسة التي مهّدت لها سلطنة عمان إلى جانب العراق، رشح منها انّه تمّ التفاهم على مجموعة نقاط تفضي الى التهدئة بين السعودية وايران، وهو ما يعني انّها طاولت الوضع في اليمن، والذي يسود جبهاته وقف لإطلاق النار ولو بنحو غير معلن او رسمي، اضافة الى الملفات الامنية الشائكة في العلاقة بين البلدين.
وتؤكّد جميع المصادر، انّه لم يتمّ التطرق لا من قريب ولا من بعيد الى الملف اللبناني، لكن المناخ الإيجابي الذي سيحوط ملف اليمن لا بدّ من ان ينعكس تخفيفاً للتشنج في لبنان، أضف الى ذلك وقف استهداف العمقين السعودي والاماراتي.
وفي حال تمّ رفع مستوى المشاركة في الجولة المقبلة الى مستوى مسؤولين في وزارتي الخارجية عوضاً عن المسؤولين الأمنيين، فهذا سيعني إيذاناً بالعودة الى مرحلة التبادل الديبلوماسي المقطوع بين البلدين. وبالتالي فإنّ التهدئة الامنية في الخليج لا بدّ من ان تعني عدم الذهاب الى الاحتقان والتشنج في لبنان، خصوصاً انّ المواجهات الانتخابية السابقة اظهرت عدم فعالية «الغالبية» النيابية بنحو حقيقي في اللعبة الداخلية المحكومة بمعايير واعتبارات اكثر تعقيداً، الى درجة انّ ثمة إقتناعاً لدى البعض أنّ الغالبية النيابية حتى لو بقيت مع «حزب الله» فهي ستشكّل عبئاً معنوياً عليه وليس مكسباً فعلياً، وهو ما تُرجم مع المجلس النيابي الحالي. فالغالبية النيابية ستجعل «حزب الله» مسؤولاً مباشراً عن المعالجات الاقتصادية الصعبة، وتعفي في المقابل فريق المعارضة من التبعات الصعبة للإجراءات المنتظرة. وفي الوقت نفسه فإنّ انتخاب رئيس جديد للجمهورية او رئيس المجلس النيابي او حتى رئيس الحكومة، ستخضع كلها لموازين قوى مختلفة واعتبارات تركيبة البلد. وحتى تشكيل حكومة جديدة فإنّها ستأخذ في الاعتبار والى حدّ بعيد، التركيبة المعقّدة للنسيج السياسي اللبناني.
لذلك، قد تكون السعودية وضعت حدوداً مدروسة بعناية لحركة عودة سفيرها الى لبنان. أضف الى ذلك حركة التموضع السياسي الجديدة للسعودية في المنطقة على ضوء برودة علاقتها مع واشنطن. فعلاقتها مع الصين تتقدّم، وفي الوقت نفسه حرصت على مراعاة روسيا في الحرب الدائرة في اوكرانيا.
كما انّ الرئيس التركي يحلّ ضيفاً على ولي العهد السعودي، بعدما نقل القضاء التركي اخيراً ملف مقتل الخاشقجي الى القضاء السعودي. كما تواصلت انقرة مع عدد من دول الخليج بحثاً عن دعم اقتصادي، وسط تضخّم حاد للاقتصاد التركي رافقه ارتفاع اسعار الطاقة بسبب الحرب في اوكرانيا.
وفي الواقع، تراجعت العلاقة السعودية بإدارة الرئيس جو بايدن لأسباب عدة، يبقى أهمها على الاطلاق فقدانها للحماية، رغم تعرّض عمقها الأمني لصواريخ الحوثيين، وسط تساهل اميركي مع ايران بسبب المفاوضات حول الملف النووي.
صحيح انّ من الصعوبة بمكان الاعتقاد أنّه يمكن حصول حال طلاق بين الرياض وواشنطن لأسباب كثيرة ومعقّدة لها علاقة بالترابط الوثيق بينهما، لكن هذا لا يمنع رهان ولي العهد السعودي على انتظار بعض الوقت، املاً بفوز الجمهوريين في الانتخابات النصفية بعد اشهر معدودة، واستتباع ذلك بعودة دونالد ترامب او اي جمهوري آخر الى البيت الابيض.
والانتخابات النصفية التي ستحصل في تشرين الثاني المقبل سيُعاد فيها انتخاب كافة اعضاء مجلس النواب البالغ عددهم 435 عضواً، اضافة الى ثلث مجلس الشيوخ أي 35 عضواً من اصل 100 و39 حاكم ولاية. وغالب الظن انّ الجمهوريين يستعدون لفوز مريح.
أما على مستوى الرئاسة، فصحيح انّ المشكلات بدأت تزداد في وجه عودة ترامب داخل الحزب الجمهوري نفسه، الّا انّ سياسة الجمهوريين تبدو اكثر ميلاً تجاه السعودية واكثر تشدّداً تجاه ايران. اضف الى ذلك، الضعف الذي يواجهه بايدن وسط عدم ظهور «ديموقراطي» آخر قد يحظى بترشيح الحزب.
وقد يكون ولي العهد السعودي يراهن على إمرار الوقت بعدم مساعدة إدارة بايدن في رفع مستوى انتاج النفط، وبالتالي خفض سعره، وعلى اساس انّ ضعف بايدن الداخلي سيمنعه من الذهاب بعيداً في وجه بن سلمان. وهو بالتالي خصومة مكبوتة بين ولي العهد والديموقراطيين الذين باتوا تحت التأثير المتعاظم للجناح اليساري، في مقابل تحالف غير منظور بين محمد بن سلمان والجمهوريين، وإذا كان ذلك بقيادة ترامب فسيكون أفضل.
هي اذاً لعبة أوسع واكبر بكثير من حسابات اللبنانيين وحتى انتخاباتهم وتوازناتها المحكومة بسقف التنوع الطائفي، والمتروكة للهندسة الفرنسية، رغم ظهور الانقسام الفرنسي الداخلي بعد التجديد لإيمانويل ماكرون.