الشعار الوحيد في الانتخابات النيابية المُزمعة، والذي يحمل معنى عميقاً ووجودياً، هو الإختيار بين الدولة والميليشيا، فكل الشعارات والعناوين الأخرى تفقد قيمتها إذا لم تكن متصلة به بما في ذلك شعارات وقف الإنهيار ومكافحة الفساد ومحاكمة الفاسدين.
وليس مقصوداً بالميليشيا ما يصطلح على تسميته بـ»المقاومة»، فهذه المقاومة هي حق وواجب كل لبناني في التصدي لأي عدوان خارجي، وليست محصورة ولا يجب أن تكون بفئة أو مذهب، ولا بحزب ودولة أجنبية، بل هي فعلٌ شعبي تطلقه مجموعات وطنية ويتحوّل بحسب الحاجة والقناعة إلى مشروعٍ عام ومسيرة لا تتوقف إلا بعد تحقيق أهدافها في تحرير الأرض وطرد الغزاة.
وتجربة لبنان مع مقاومة التدخل الخارجي ليست جديدة. في العام 1958 تحرك مقاومون ضد الإنزال الأميركي في الأوزاعي ونصبوا كمائن في اتجاه حرج بيروت، لكن مقاومتهم توقفت بعد التسوية التي جاءت بفؤاد شهاب رئيساً وإنهاء مهمة البحرية الأميركية. ومنذ نهاية الستينات ومطلع سبعينات القرن الماضي ارتبطت «مقاومة» اللبنانيين بتطور الحضور الفلسطيني المسلح في لبنان وتحوّل الجنوب إلى ساحة للمعارك والاعتداءات الإسرائيلية. لا يمكن تصور انخراط لبنانيين في مقاومة إسرائيل مع إغفال الدور الفلسطيني. بهذا المعنى كانت مقاومتهم فلسطينية على أرض لبنان، في وقت كان البلد يحتاج وعياً من نوع آخر لمصيره ومستقبله، يحفظه في منطقة مضطربة تشابكت فيها الأهداف والمصالح. لم يتحقق هذا الوعي فانفجر البلد حروباً مديدة.
عند بداية التوغل السوري في لبنان مطلع 1976 قامت أيضاً جبهة لمواجهة «الغزو» ما زال ناشطوها على لوائح المطلوبين، وبعد ست سنوات إجتاحت إسرائيل لبنان فقامت في وجهها جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية التي شنّت مئات الهجمات على قوات الاحتلال طوال السنوات اللاحقة.
مختلف تلك المقاومات أدّت دورها في إشعار عدوّها بأنه لن يستريح إلى إنجازاته وتوقّفت نتيجة تسويات سياسية داخلية في الأساس وتتمتع برعاية خارجية لصيقة. في العام 1958 عاد المقاومون إلى أحزابهم وبيوتهم وقامت سلطة لا غالب ولا مغلوب. وفي العام 1976 استوعب الجميع أن الاجتياح السوري إنما هو مبادرة كريمة تحظى بغطاء داخلي وعربي ودولي، وفي العام 1989 أنجز اتفاق الطائف التسوية الداخلية فحُلَّت الميليشيات بما فيها المنخرطة في مقارعة إسرائيل، وبقيت ميليشيا وحيدة برعاية سورية ايرانية مشتركة ستواصل قتال المحتلّ حتى انسحابه في عام 2000.
كان يُفترض أن يكون ذلك العام عاماً للنصر اللبناني والانصراف إلى البناء الداخلي، لكن العكس حصل بحجة أطلقتها دمشق ثم عادت لتنكرها في وقت يناسبها. قال النظام السوري يومها إن المقاومة ستستمرّ حتى تحرير مزارع شبعا وكفرشوبا، واستمرت المقاومة بهذه الذريعة لتتحوّل إلى دولة في الدولة.
كان يمكن للرواية السورية المقاومة أن تحيا أكثر بكثير لولا الجدل الذي أثارته دائماً، ولولا اعترافات بشار الأسد للمبعوث الأميركي فردريك هوف بأن المزارع سورية وأنه في حال التوصل إلى سلام سوري إسرائيلي لا حاجة للمقاومة في لبنان الذي سيلحق سوريا فوراً إلى السلام مع العدو الصهيوني.
تظل المقاومة جزءاً من ثقافة كل شعبٍ حريص على وجوده ومستقبله، أما الهدف الأساس لأي شعب فهو أن يكون لديه دولة ونظام وقانون ومجتمع توحّده المصالح المشتركة لأبنائه، وهذا لن يتحقق إلا بمعايير شفافة موحدة، ربما تسهم الانتخابات المقبلة في بلورتها.