بعد طول تشكيك، إقتنع اللبنانيون ولو متأخّرين، وعلى بُعد أيام من فتح الصناديق، أنّ الانتخابات النيابية حاصلة لا محال.
ورغم العراقيل المتعددة التي حاول بعض الأطراف الداخلية افتعالها بهدف منع حصول الانتخابات، الاّ أنّه بدا واضحاً أنّ قراراً دولياً كبيراً وحازماً قضى بإجرائها. وهو سيعني انّ مواعيد الاستحقاقات لن تعود الى نغمة التأجيل مستقبلاً، بعد حقبة طويلة دامت عقوداً عدة، وكانت تهدف فعلياً الى نسف روحية الديموقراطية واحترام آليتها، وسط بلدان كثيرة لم تعرف ولا تريد ان تتعرف على مبدأ تداول السلطة.
رغم ذلك، ثمة استثناء آخر وأخير سيظهر مع الانتخابات الرئاسية، والتي من المرجح ان تشهد فراغاً رئاسياً، انما محدوداً هذه المرة. أي فراغ لأسابيع او ربما لأشهر قليلة. ولهذا الامر تفسيره وسنورده لاحقاً. ويأمل البعض في ان تشكّل الانتخابات النيابية بداية نهاية الفصل الأخير من مرحلة الانهيار المرعبة التي عاشها لبنان، على ان يكون موعد اختتام الفصل الاخير مع انتخاب الرئيس الجديد للجمهورية اللبنانية. وما بين الاستحقاقين النيابي والرئاسي مرحلة لن تقلّ صعوبة عمّا سبق وربما أكثر وجعاً والماً. تسوية سياسية كبرى برعاية دولية من خلال فرنسا، لترتيب أسس المرحلة المقبلة او مرحلة إعادة بناء مؤسسات الدولة. هو ليس كلاماً طوباوياً او تمنيات، بل رؤية دولية تفرضها التبدلات الهائلة التي تشهدها منطقة الشرق الاوسط، وهو ما بات يُعرف بإعادة رسم الخريطة السياسية فيها. وتكفي الإشارة الى انّ الزلزال الذي ضرب العالم من خلال القارة الاوروبية عبر الحرب الدائرة في اوكرانيا لم يؤدِ الى إعادة وضع الملف اللبناني على الرف. فها هي الانتخابات النيابية بقيت قائمة مع تشديد دولي حيالها.
على سبيل المثال، حين لوّح رئيس “التيار الوطني الحر” النائب جبران باسيل خلال زيارته الانتخابية إلى عكار باحتمال انسحاب حزبه من الانتخابات وضمناً إلغاء الانتخابات بسبب اعمال الشغب التي واكبت زيارته، حصلت استفسارات سريعة عن الخلفية الحقيقية لكلامه، مع تأكيدات اضافية بأنّ العواصم الغربية لن تقبل بأي تأجيل. وفي اليوم التالي، غاب هذا الموقف عن خطابات باسيل، رغم حصول أعمال مشابهة في منطقة تعلبايا في قضاء زحلة.
القوى السياسية في لبنان، والتي رفعت من سقف خطاباتها لأغراض شدّ العصب الانتخابي ستنتظر بتأنٍ النتائج التي ستظهر في 16 أيار المقبل. ستقرأ كل القوى بتأنٍ الأرقام الفعلية لأحجامها الجديدة في بيئتها، بغض النظر عن عدد المقاعد التي ستنالها، كونها ستخضع لمبدأ تأمين الدعم من قِبل حلفائها، وبالتالي لن تعكس أعداد هذه المقاعد أحجامها الشعبية الحقيقية.
لكن في هذا الوقت، هناك من بدأ بتحضير المناخ المطلوب لصيف التسوية، والذي سينطلق مع الانتهاء من الانتخابات التشريعية الفرنسية في 19 حزيران المقبل. وخلال الأشهر الماضية، طرحت السفيرة الفرنسية على الأطراف السياسية اللبنانية الأساسية، وفي طليعتهم “حزب الله”، ضرورة أن تتولّى القوى السياسية اللبنانية إيجاد الإطار المطلوب لإنجاز تفاهم بين اللبنانيين، هم وحدهم يقررّون شكله، وأنّ باريس مستعدة للمساعدة في تحقيقه. الدعوة الفرنسية فُهمت بأنّها للتمهيد لعقد مؤتمر تشاوري بين الأطراف والقوى اللبنانية، والتي ستفرزها الانتخابات النيابية، لإنجاز صيغة تفاهم ترتكز عليها المرحلة المقبلة.
صحيح انّ الديبلوماسية الفرنسية، والتي تتشاور في استمرار مع الديبلوماسية الاميركية، حاذرت دوماً ان تُظهر نفسها من موقع المساعد وليس من موقع الطرف، لكن الترجمة اللبنانية كانت واضحة.
التجارب التاريخية أظهرت انّ الأزمات العاصفة التي تهزّ لبنان كانت تنتهي بتفاهمات دستورية وسياسية.
هكذا وُلِدَ “اتفاق الطائف” بعد حرب العام 1989، وهكذا ايضاً ظهرت تسوية الدوحة عام 2008 بعد سنوات ثلاث دامية. حجم الدمار الذي خلّفه الانهيار الاقتصادي المريع يقارب النتائج نفسها التي خلّفتها حربا التحرير والإلغاء عامي 1989 و 1990، وهذا ما دفع البعض إلى الاعتقاد بأنّ الظروف تسمح للذهاب في اتجاه دستور جديد وولادة الجمهورية الثالثة. وتردّد كثيراً أنّ “حزب الله” يطمح للذهاب في اتجاه المثالثة، خصوصاً انّ الرعاية الدولية ستتولاها فرنسا هذه المرة بعد السعودية في “الطائف” وقطر في “الدوحة”.
لكن المناخ الدولي ليس ملائماً للذهاب في هذا الاتجاه، والإشارات عدة، منها على سبيل المثال، إعادة السعودية الى الملعب اللبناني رغماً عنها، وهو ما يفسّر محاذرتها الانزلاق الكامل في زواريب الانتخابات النيابية.
وفي حال انعقاد مؤتمر باريس، سيجري بداية استعراض المصاعب الدستورية التي واجهت حسن تطبيق الدستور، وبالتالي إعادة فتح “اتفاق الطائف” والبنود التي لم تُنفّذ منه كمثل بند اللامركزية، مع إدخال تعديلات على بعض النصوص تضمن سير آلية العمل الدستوري، خصوصاً لجهة تأليف الحكومات ووضع مِهَل زمنية لذلك.
مصر المهتمة بالمساعدة، ستعمل من خلف الكواليس تماماً كما ساهمت في تذليل العقبات أمام ولادة حكومة الرئيس نجيب ميقاتي. يومها نجحت باريس في تركيز دورها اللبناني بعد تعثر طال بعض الشيء. وهي أيقنت أنّه لا بدّ من رياح اقليمية مساعدة. فتواصلت مع طهران. ووفق ما روته مصادر ديبلوماسية فرنسية، أنّها قالت لها في اللحظة المناسبة اقليمياً، إنّ لبنان على شفير الانفجار الاجتماعي والانهيار الاقتصادي الكامل، وانّ الكارثة اصبحت واقعة. واضافت باريس: “لديكم اصدقاء في لبنان كما نحن لدينا اصدقاء، ويمكنكم مساعدتهم ودعم جهودنا”.
وولدت حكومة ميقاتي التي رأت باريس أنّها نجحت في تحقيق المهمات الثلاث المطلوبة منها:
1- تأمين إجراء الانتخابات النيابية.
2- إعادة التواصل مع دول الخليج.
3- تركيز أسس التواصل والتفاهم مع صندوق النقد الدولي.
وبعد انتهاء الانتخابات النيابية، من المفترض دستورياً تشكيل حكومة جديدة، لكن المهمة تبدو شبه مستحيلة. فباسيل، والذي من المفترض انّه يمثل وجهة نظر رئيس الجمهورية، أعطى اشارات سلبية حيال إعادة تسمية ميقاتي مجدداً، اضافة الى المطالبة بحكومة سياسية، ما يعني ضمناً أنّه يريد العودة الى الحكومة.
الهمس في الكواليس يشير الى نية باسيل تسمية جواد عدرا لتشكيل حكومة سياسية، والهدف إنجاز سلة كبيرة في التعيينات، تتراوح بين إقصاء من برزت اسماؤهم بقوة للاستحقاق الرئاسي المقبل، وبين زرع رجاله في المواقع الأساسية والمهمة داخل الإدارة لإطالة نفوذه اطول مدة ممكنة بعد مغادرة الرئيس ميشال عون قصر بعبدا.
لكن تجاذبات كثيرة ستحصل وسط رضى باريس على ميقاتي وعدم معارضة السعودية، والأهم وسط علاقة “سالكة” وآمنة بين باريس و”حزب الله”. غالب الظن أنّ “حزب الله” سيكون أقرب الى خيار ميقاتي، وهو ما سيعني تشابكاً لبنانياً سينتج منه استمرار الحكومة الحالية، ولكن في إطار تصريف الاعمال.
الجميع محشور في لبنان ولو بنسب متفاوتة. فالانهيار الاقتصادي ـ المالي يكاد يخنق الجميع. وهو ما يعني انّ “التسوية” السياسية ـ الدستورية المنتظرة في باريس لا بدّ من ان تترافق مع خطة اقتصادية وحوافز، لبنان بات بأمسّ الحاجة اليها.
ستتمّ على الأرجح إعادة إحياء مشاريع مؤتمر “سيدر” بعد إدخال تعديلات عليها، والأهم تعبيد الطريق امام مساعدات خليجية واستثمارات تعيد الحياة الى شرايين الاقتصاد اللبناني، ولكن بعد الالتزام بخطة صندوق النقد الدولي وتحت اشرافه الدائم ولمرحلة طويلة مستقبلاً. ولكن ثمة اجواء سياسية لا بدّ من تأمينها، كمثل إعادة تكوين سلطة لبنانية لا تشكّل تحدّياً لأحد. سلطة يأمن لها “حزب الله”، وفي الوقت نفسه لا تشكّل تحدّياً للدول المانحة، ولا سيما منها دول الخليج.
هو شكل من أشكال التحييد الذي ينادي به البطريرك الماروني، على ان يبدأ بناء ذلك مع دخول رئيس جديد الى قصر بعبدا، مهمته رعاية كل هذا المسار وبالتفاهم مع الامم المتحدة من خلال صندوق النقد الدولي، وبالارتكاز على الجيش اللبناني الذي سيتولّى استعادة هيبة الدولة وتأمين حماية إعادة بناء مؤسساتها. وهو ما يعني رئيساً قادراً على التفاهم مع العواصم الغربية والخليجية، ولا يشكّل تحدّياً لـ”حزب الله”، لا بل على العكس يؤمّن حمايته ولكن ضمن اطار الدولة. هو رئيس بمهمة إنقاذ اقتصادي واستعادة الاستقرار المفقود. لكن قبل ذلك، قد تكون اشهر الصيف الفاصلة حرارتها مرتفعة.