أربع خلاصات رئيسية يمكن الخروج بها من نتائج الانتخابات البرلمانية اللبنانية.
أوّلاً، بات واضحاً أنّ التفويض الشعبي المسيحي انتقل من ضفّة التيار الوطني الحر ورئيسَيْه ميشال عون وجبران باسيل إلى ضفّة القوات اللبنانية، وهو ما يعني أنّ الرأي العامّ المسيحي وللمرّة الأولى منذ عام 2005 ينتقل بشكل مباشر من محور تحالف الأقليّات والتضامن والتكافل مع سلاح ميليشيا حزب الله إلى كنف الخطاب التاريخي للمارونية السياسية، بما هو خطاب يقوم على أولويّة السيادة الوطنية.
ثانياً، عبّرت الطائفة السنّيّة، ولا سيّما في المدن، عن قدرة استثنائية على الذهاب سياسياً إلى حقبة ما بعد الحريرية السياسية على عكس الانطباعات التي سادت قبل إجراء الانتخابات من أنّ عزوف الرئيس سعد الحريري أو تعليقه للمشاركة السياسية سينعكس ارتباكاً على مستوى الشارع السنّيّ، أو أنّ الطائفة تمتلك استعدادات للذهاب باتّجاه التطرّف والعصبيّات، ردّاً على ما نزل بها من مآسٍ ومعاناة وحرب ضروس معلنة من التحالف الماروني العوني والشيعي. على العكس من ذلك ذهبت الطائفة في الواقع إلى خيارات موضوعية وعاقلة لا تختلف كثيراً عن ثوابت السُنّة منذ انتهاء الحرب الأهليّة وبروز رفيق الحريري ومدرسته كخيار سنّيّ حاسم.
لقد صوّت السُنّة لصالح ما يرونه مشروع الدولة ممثّلاً بعدد من شخصيات المجتمع المدني غير المعروفة قبلاً من الجمهور السُنّيّ إنّما ممّن نجحوا في توليد انطباعات عن صلتهم الثقافية بمرتكزات مشروع الدولة والقانون والنظام العامّ. كما صوّت السُنّة لصالح خطاب السيادة المناهض لسلاح حزب الله، بنسختَيْه المستجدّة في شخص النائب فؤاد مخزومي في بيروت والأكثر أصالة بشخص أشرف ريفي في طرابلس.
بشكل مفاجئ وجدت الطائفة خياراتها أو على وجه أدقّ وجدت طريقة عاقلة للبحث في الخيارات المستقبلية وفي وقت غير مسبوق.
ثالثاً، اتّضح أنّ رقعة الاعتراض المدني الشعبي على نخبة النظام السياسي القديمة تتّسع وأنّ ما شهدته هذه الانتخابات ليس أقلّ من موجة سياسية وشعبية عارمة، لم يصمد أمامها لا التهويل ولا المال السياسي. هي موجة ذات مستقبل له علاقة لا بالعناوين المطلبيّة للناس إنّما بتشكيل هويّة لبنانية حديثة تقوم على تصوّر جامع وغير طائفي للبنان، كما ظهر جليّاً في الالتقاء التلقائي والعفوي في معركة الشوف-عاليه التي أنتجت ثلاثيّاً سنّيّاً درزيّاً مسيحيّاً، متوافقاً بلا افتعال على أجندة سياسية عابرة للاصطفاف المذهبي.
المدنيون أو التغييريّون كما يحبّون أن يسمّوا أنفسهم آتون من مصادر سياسية حديثة تعليماً ومهناً وأعماراً ويحملون عناوين حداثية بيسر وبلا افتعال، كعنوان الزواج المدني الذي أُقحم عليهم إقحاماً، حيث إنّ طرح مسألة الزواج المدني في بلد لا يقوى على الزواج فيه إلا ما ندر من بني البشر هو طرح يتّسم بالفكاهيّ بأحسن الحالات وبالخبيث في أسوئها.
ولكن لا بدّ من ملاحظة في هذا السياق. لقد لفتني أنّ هذا الاعتراض المدني الشعبي، وعلى الرغم من أنّ الانطباعات السابقة حول مركزية الحضور المسيحي فيه، بدا اعتراضاً خارج المناطق التقليدية المسيحية أو ذات الوزن المسيحي ككسروان وجبيل والمناطق الأخرى، فيما عدا الاختراق الجدّيّ في زغرتا/الكورة. انحصر التمثيل الاعتراضي نسبياً، من بيروت إلى الجنوب وحاصبيا، ربّما لأنّ العنوان الاستراتيجي والأمني كان العامل الأبرز الضاغط على المسيحيين منذ أحداث الطيّونة، والذي لولاه أرجّح أن يكون الاختراق المدني أكبر وأوسع.
رابعاً، وهذه نقطة بالغة الأهميّة وهي إثبات الثنائي الشيعي قدرة عجيبة على الإمساك بخيارات الطائفة خلافاً لما بدا في الساعات الأولى، وربّما في اليوم الأول، حيث تبادر إلى الذهن، قبل صدور الأرقام الرسمية، أنّ ثمّة انخفاضاً في نسبة الاقتراع عند الشيعة كممارسة اعتراض بديل عن التصويت المباشر لصالح خصوم حزب الله.
لقد نجح الثنائي الشيعي في إثبات أنّه يمسك بشكل شبه كامل بالقدرة التجييرية داخل الطائفة، وأظهر مستويات مقلقة من التعبئة والإدارة. يفرض هذا الملمح نفسه على كلّ قراءة للانتخابات، على الرغم من ميلي لاعتباره ملمحاً غير طبيعي. فالتنوّع الحاضر في بقيّة الطوائف الأخرى لا بدّ أن يكون له نظيره داخل الطائفة الشيعية. قد يمتلك حزب الله الأكثرية الشعبية الشيعية، لكن من غير الطبيعي أن لا تكون هناك خيارات أخرى للناس، وهذا ما يحتاج إلى رصد وتحليل، ولا سيّما أنّه بموازاة الإمساك الحديدي نجح الاعتراض وبأصوات قليلة مسيحية وأخرى سنّيّة في أن يُحدث اختراقاً غير مسبوق في لوائح الثنائي، وإن ظلّ هذا الاختراق خارج اللون الشيعي.