تبادل التهديدات بين بعض الكتل النيابية الكبيرة بتقديم استقالات جماعية من مجلس النواب، يُعتبر ظاهرة جديدة في السياسة اللبنانية، التي حفلت بشتى أنواع التجارب والمناورات على مدى عهود الاستقلال المختلفة.
لم يحصل أن استقالت كتلة نيابية عشية انتهاء ولاية مجلس النواب، وفي خضم أزمة مصيرية كالتي تُحاصر البلد، بل وقبل أشهر معدودة من انتهاء ولاية رئيس الجمهورية، والوصول إلى استحقاق الانتخابات الرئاسية، في ظروف ملتبسة حول إمكانية انتخاب الرئيس العتيد في الفترة القانونية المحددة في الدستور، ودون الوقوع في الفراغ الرئاسي للمرة الثالثة منذ انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود.
الكلام عن استقالات نيابية في هذه الدوامة التي يتخبط فيها البلد، هو في الواقع إقرار بالفشل في التصدي للواقع السياسي العاطل، والمُعطّل بسبب الخلافات الكيدية والشخصانية، التي سربلت الحركة السياسية وحالت منذ أكثر من ستة أشهر دون تشكيل الحكومة العتيدة.
خروج الكتل الكبيرة من مجلس النواب، يعني عملياً، الإنهاء القسري للولاية الحالية، وتعطيل دور السلطة التشريعية في هذه المرحلة المعقدة من تاريخ البلد، وإبقاء الدولة دون مرجعية دستورية أساسية في قواعد النظام السياسي، وما يسببه ذلك من خلل في انتظام عمل المؤسسات الدستورية، كمَثل مَن ينتزع إحدى ركائز كرسي مكتبه، ويفقد التوازن المعهود ويصبح كرسيه أعرج غير صالح للاستعمال!
العودة إلى مثل هذه المغامرات غير محمودة العواقب، تحت ضغوط الخلافات المستفحلة الراهنة، وما يشوبها من كيديات حاقدة بين بعض الأطراف والأحزاب السياسية، وخاصة تيار المستقبل والتيار الوطني الحر، من شأنه أن يُدخل البلاد والعباد في دورة مدمرة من الاشتباكات الطائفية والحزبية، حيث سرعان ما تتخذ الصراعات المنحى الطائفي والمذهبي الحساس، وهات يا خطابات شعبوية تتلاعب بغرائز الأنصار والمحازبين، بهدف شد «العصب الطائفي والمذهبي».
والقفز إلى الاستقالات الجماعية هو أشبه بمن يرمي بنفسه من الطائرة قبل أن يتأكد من أن مظلته قابلة للاستخدام السليم، وتوصله إلى الأرض بسلام، ذلك أن إنهاء ولاية المجلس الحالية قبل التوافق على القانون الجديد الذي ستجري على أساسه الانتخابات تبقى قفزة في مهب الخلافات المستفحلة بين المكونات الحزبية الراهنة، والتي تسعى كل منها إلى تفصيل قانون انتخابي على مقياس مصالحها الأنانية والفئوية، بغض النظر عن التلاقي «البارادوكسي» الحاصل بين التيار الوطني والقوات في التمسك بقانون الانتخاب الحالي.
وفي الوقت الذي يُسابق فيه البلد الزمن لتشكيل حكومة، ولو بالحد الأدنى، لوقف الانهيارات المتزايدة يوماً بعد يوم، تقضي الاستقالات الحزبية من مجلس النواب على أي أمل إنقاذي، ولو مرحلي، لأن الانقسامات السياسية تكون قد بلغت نقطة اللاعودة، والاستشارات الحكومية تتيه في لجج الخلافات التقليدية، وتتحول الدولة بين ليلة وضحاها، إثر انهيار المؤسسة التشريعية وعدم وجود سلطة تنفيذية، إلى دولة فاشلة كاملة الأوصاف والمواصفات!
وإذا كان وجود مجلس النواب، ومحاولات رئيسه المستمرة لوصل ما انقطع بين القيادات الحزبية، لم يؤدِ إلى ولادة الحكومة بعد أشهر الانتظار المريرة، فكيف سيواجه لبنان الاستحقاق الرئاسي المقبل بعد سنة وخمسة أشهر، في ظل هذا الفراغ المفترض في حال حصلت الاستقالات النيابية الجماعية، وعدم التمكن من إجراء الانتخابات النيابية!
في القراءة السياسية الموضوعية للتهديدات المتكررة بالاستقالات النيابية، أن المسألة تنطوي على محاولات مكشوفة للتهرب من تحمل مسؤولية الانهيارات الراهنة، وما قد يتبعها من انفجارات اجتماعية ومعيشية بعد رفع الدعم عن السلع الغذائية الأساسية، وسقوط سقف السلطة فوق رؤوس الجميع، بسبب الفشل الذريع ليس في الحد من الانهيار وحسب، بل وأيضاً هذا الإفلاس المستمر في إدارة الأزمة وتطويق مضاعفاتها المدمرة في مختلف القطاعات.
الهروب الجماعي للنواب من مجلس النواب، سيُحمل الأحزاب والتيارات السياسية مسؤولية مضاعفة عن السقوط التاريخي لدولة لبنان الكبير بعد مائة عام على قيامها، وتعريض الكيان لخطر التفكك، وتعويم طروحات التقسيم والفدرلة التي سادت في أيام الحرب السوداء، وإفساح المجال أمام العبث الخارجي بمقومات الصيغة والدولة والنظام.
إن المرحلة التاريخية الحرجة التي يجتازها لبنان حالياً تتطلب المزيد من التلاقي والحوار بين القيادات السياسية، سواء على طاولة حوار وطني أو من خلال مؤتمر وطني برعاية خارجية، كما جرت العادة في العقود الأخيرة.
ولكن استقالات النواب هي في الواقع استقالة من الواجب الوطني، وهروب من المسؤولية إلى الأمام، واعتراف بالفشل المريع في التصدي لأخطر الأزمات التي يواجهها لبنان في تاريخه الاستقلالي.