هذه التي يُـقال: إنها أحزابٌ عندنا، هي تلك الميليشيا التي خطفت لبنان على هويته الوطنية منذ سنة 1975، وكتبتْهُ على إسمها مع كل حدوده المعترف بها دولياً.
وكمثل ما أطلقتْ مدام «دو باري» على الملك الفرنسي لويس الخامس عشر لقَـبَ «فرنسا»، هكذا حلَّلت الأحزاب الملَكية عندنا إطلاقَ لقب «لبنان» على نفسها، ولم توفّر لقب لويس الرابع عشر القائل: «أنا الدولة».
وبفضل مجموعةٍ من الألقاب الدجّالة أصبحت الأحزاب عندنا هي «لبنان» والوطـن والدولة والأرض والسلطة والسياسة والمقاعد والوظائف والمراتب والرواتب، ولها الملْكُ والقوةُ والمجد، ولها سلطةُ الله على الأرض.
وعندما تمتلك الأحزاب سلطة الأرض وسلطة السماء يصبح اللبنانيون من غير الأحزاب فئـةً مستَبْعَدةً مستعبَدَةً نازحةً كادحةً مهّمشة مستضعفة محرومة معزولة ومرذولة وليس عليهم إلاّ أن ينخرطوا في هذه الأحزاب – ولو مكرهين – حتى ينالوا شرف الوطنية، ويحصلوا على حقّ في الوطن، ووظيفة في الدولة، وخدمة في وزارة، ودعوى في محكمة، ورغيف خبز مـن فـرن.
المفكر الفرنسي «موريس دوفرجيه» يقسم الأحزاب الى ثلاثة: أحزاب الجماهير وأحزاب الشعب وأحزاب السلطة، ولكلٍّ منها مواصفات بين الراديكالية الفرنسية والبورجوازية الأميركية، والمبادئ القومية أو القيم الفكرية كالحركة الجهوية في فرنسا.
والأحزاب عندنا لا علاقة لها بأي تسمية من هذه التسميات وبأي صفة من هذه المواصفات، إنها بالمعنى اللفظي وطنيـة إستقلالية ديمقراطية إشتراكية إجتماعية توحيدية، وهي بالمعنى العملي والعملاني: مذهبية مصلحية إنكفائية حصرية متعصبة متطرفة، عائلية الإنتماء إقطاعية الزعيم.
من المفارقات الشديدة المرارة، أنّ الأحزاب في القرون الوسطى في لبنان كانت ذات هيكلية توحيدية مشتركة في اشتراكيتها، وكان كلٌ من الحزب القيسي واليمني يضم مسيحيين ومسلمين ويمارس العمل السياسي والحزبي بمفهومه الديمقراطي الوطني.
وقُـلْ: منذ القرن السادس قبل المسيح كانت المدن الفينيقية: صور وصيدا وجبيل، تُمارِسُ السلطة بمستوى عالٍ من الديمقراطية، عبر مجلس يمثل الشعب ومجلس شيوخ يهتم بالشأن المصيري، وقضاة منزَّهين يحكمون بالعدل.. ونحن في القرن الواحد والعشرين نرجع بلبنان القهقري الى ما كان في عهود ذوات القرون.
في القرن الواحد والعشرين وفي ظل هذه الثورة الإلكترونية والتطور التقني الجامح لم يعد الإنسان يميل الى التكبُّل بالتزام حزبي مدى الحياة، حتى إن الإلتزام بمؤسسة الزواج مدى الحياة أصبح أمراً متعذراً، وقد قال الأديب الفرنسي «ألبير كامو» بهذا المعنى: «لقد حان الوقت للتضحية بالعقائد كي يعيش الإنسان…» إذا كانت العقائد الفكرية والروحية تتعارض مع استمرار حياة الإنسان، فكيف هي نعمة الحياة إذاً مع الأحزاب المذهبية الطابع والشخصانيّة الأهواء، التي تنتصب في المجتمع كالأصنام المتوحشة، لا تسير إلاّ خلف الجنازات ولا تجتمع إلاّ تحت النعوش.
رحم الله الأديب الشاعر أمين نخله الذي يقول في رثاء أحد الكبار:
جامعُ الصـفِّ بعدَ طولِ شتاتٍ جُمعَتْ تحتَ نعشهِ الأحزابُ.