وردَ في الوثيقة السياسية لـ«المؤتمر الدائم للسلام» أنّ مِن مهامّه «إعادة الاعتبار إلى السياسة في لبنان، بما هي عملٌ نبيلٌ لخدمةِ الإنسان، وليست – كما هي حتى الآن – مجرّدَ صراع على السلطة بين أحزاب طائفية أدخَلت البلدَ منذ نحو نصف قرن في حالة حرب دائمة تخَلَّلها هِدناتٌ متقطّعة، كما استدرجَت تلك الأحزاب تدخُّلَ قوى خارجية في شؤونِنا الداخلية».
يسَجَّل للمجموعة المؤسّسة لـ«المؤتمر الدائم» أو التي تدور في فلكِه، وفي طليعتِها النائبان السابقان سمير فرنجية وفارس سعَيد والباحث محمد حسين شمس الدين، مساهمتُها الفعّالة في تطوير الحياة السياسية وتحديثِها والارتقاء بها من الخلافات الغرائزية إلى صناعة رأي عام يستنِد في مقارباته السياسية على مبادئ قيمية وإنسانية وأخلاقية، وإطلاق مبادرات خلّاقة لم تخرج يوماً عن سياق الدفاع عن مشروع الدولة والسيادة والعيش معاً…
ولكنّ ما تقدّمَ يَبقى ناقصاً ومجتزَأً ما لم يُصَر إلى تصحيحه بقراءة تشخيصية دقيقة للأسباب الفعلية للحرب، بعيداً عن الذاتية والخلافات الماضوية، خصوصاً أنّه الأولى لمَن يدعو لقيامِ «تيّار الذين استخلصوا دروسَ الحرب» أن يكون استخلصَ هذا الدور قبل الآخرين.
وليس المقصود هنا تبرئة هذا الطرف أو الدفاع عن ذاك الحزب، إنّما وضع الأمور في نصابِها الصحيح:
أوّلاً، ما ينطبق على الأمس ينسحب على اليوم، بمعنى هل المواجهة مع «حزب الله» هي «مجرّد صراع على السلطة»، أم صراع حول خيارات وطنية كبرى تبدأ من سيادة لبنان وحيادِه ودوره ولا تنتهي بمرجعية الدولة العسكرية والأمنية والسياسية. وهل مَن يعتقد أنّ إعطاءَ الحزب اليومَ المزيد من السلطة سيَجعله يُسَلّم سلاحَه ويلتزم بلبنان أوّلاً والدولة أوّلاً؟ بالتأكيد كلّا.
والأمر نفسُه ينطبق على الواقع السنّي في زمن الثورة الفلسطينية، والامتيازات المارونية كانت مجرّد حجّة لإسقاط هيكل الدولة على كلّ اللبنانيين، لأنّ المشكلة في العمق والأساس لم تكن في صلاحيات بالزائد أو الناقص، بل بالخِلاف حول دور لبنان وتحويلِه إلى منصّة عن كلّ العرب لإطلاق الصواريخ على إسرائيل؟
ثانياً، الصراع السلطوي هو ثانويّ في ظلّ الانقسام العمودي بين خيارين وتوَجّهين: بين مَن يُدافع عن حقّ الفلسطينيين بتحرير أرضِهم من لبنان، وبين مَن يرفض تحويلَ لبنان إلى مقرّ للثورة الفلسطينية.
وبين مَن يَعتبر الجيشَ السوري في لبنان وكأنّه في أرضه، تطبيقاً لمقولة «شعب واحد في دولتَين»، وبين من يَرفض أيّ جيش غريب غير الجيش اللبناني. وبين من يَعتبر سلاحَ «حزب الله» شرعياً وضرورياً، وبين من يَعتبره حائلاً دون قيام الدولة وإبقاء لبنان مسرَحاً للقوى الخارجية.
ثالثاً، عن أيّ صراع حزبي على السلطة تتحدّث هذه الوثيقة في ظلّ الثورة الفلسطينية والجيش السوري و«حزب الله». فما اعتقدَه المسيحيون يوماً امتيازات تضمَن ليس حقوقَهم السلطوية، بل الحرّية التي قام عليها لبنان، وتحفَظ الدولة والكيان، سقطَت في اللحظة التي اعتبَرت فيها جماعةٌ لبنانية أصيلة الجيشَ الفلسطيني جيشَها في لبنان. وعن أيّ سلطة تتحدّث في ظلّ الوصاية السوريّة على لبنان، وسلاح «حزب الله» الذي وحدَه الآمرُ والناهي في لبنان.
رابعاً، البُعد الطائفي أو السلطوي للصراع كان وما زال ثانوياً، فيما جوهرُ الصراع كان وما زال حول دور لبنان وحياده وحصريّة السلاح داخل الدولة اللبنانية، وما تحميلُ الأحزابِ الطائفيةِ مسؤوليةَ توالدِ الأزمات سوى تحاملٍ في غيرِ محَلّه.
إنّ رميَ مسؤولية إدخال البَلد في حالة حرب دائمة على الأحزاب الطائفية يشَكّل تجهيلاً للأسباب الفعلية للأزمة اللبنانية وتشويهاً للتاريخ وتحريفاً للوقائع وتحويراً للأحداث. لقد أخطأت الأحزاب، وهذا مؤكّد، وجلّ مَن لا يخطئ. وكان يمكن أن يكون سلوكها أفضل، بالتأكيد.
ويمكن تحميلها أيّ شيء إلّا مسؤولية الحرب المتواصلة بأشكال مختلفة بسبب صراعها على السلطة كما زعمَت الوثيقة، فيما الأكيد أنّه لولا وجود هذه الأحزاب أو بعضها على الأقلّ في مطلع الحرب اللبنانية لكان لبنان الرسالة والنموذج أصبحَ في خبر كان.
ويبقى أنّ المواجهة المطلوبة بين التيّارَين الافتراضيَين يجب أن ترتكزَ على قاعدتين: القاعدة السيادية حيث لا شريكَ للدولة تحت أيّ عنوان أو مسَمّى، وتحييد لبنان عن صراعات المحاور. والقاعدة التمثيلية الحقيقية التي من دونها لا قيمة للبنان، فيَتحوّل إلى تجربةٍ علمانية غربية، فيما قيمتُه ورسالته بالشراكة المسيحية-الإسلامية الفعلية لا الصورية.