لم يأتِ الشباب الذين بدأوا الاحتجاجات في الأسابيع الماضية من المريخ. أرشيف هؤلاء يبين اقتراب غالبيتهم من الأحزاب الموجودة قبل هربهم من البطالة الحزبية والتزلف لرئيس الحزب وحاشيته باتجاه الجمعيات، لا بحثاً عن مورد رزق، بل عن
شيء يقدمونه لمجتمعهم
في الحزبين الشيوعي والقومي هناك أنشطة موسمية وندوات دورية وبعض الدورات التدريبية ذات الطابع العسكريّ، لكن لا شيء أكثر. ماذا يفعل في هذه الأحزاب وغيرها، شاب في العشرين من عمره لا يرغب في القتال في سوريا؟ يدعوه النائب سامي الجميّل إلى احتفال الزهور أو الدرّاق في بكفيا. يدعوه تيار المستقبل إلى دورة «ميني فوتبول» في المنية أو صيدا. في وقت كان الشباب فيه يتظاهرون بوسط بيروت، كان التيار الوطني الحر ينظم دورة ليخة و400 في ساحل المتن الشمالي.
علماً أن الباب دائماً مفتوح أمام من يرغب في «النشاط السياسي» لتلبية دعوة الأحزاب المفتوحة إلى عشاواتها شبه الأسبوعية: «تشتري بطاقة، ترتدي بذلة رسمية وتستعد للتصفيق بحماسة بعد العشاء الدسم لرئيس الحزب يعيد الخطاب نفسه».
يحتكر في كل حزب شخص واحد أو مجموعة صغيرة كل العمل، فيما المطلوب من الآخرين التصفيق فقط. يمكن من يشاء أن يقترح فكرته على رئيس الحزب، وهو يقرر تنفيذها أو لا. وغالباً ما ينفذها بمفرده في حال اقتناعه بها، بدل أن يوكل إلى صاحبها تنفيذها.
بعيداً عن حزب الله الذي يوفر قتال التكفيريين في سوريا والصراع مع إسرائيل والعمل الدعوي فرص عمل حزبي لمناصريه، ماذا يفعل الناشط في حركة أمل غير المشاركة في الاحتفالات السنوية لإحياء ذكرى الإمام موسى الصدر؟ خارج المكتب التوظيفي والمكتب الخدماتي، كيف وأين ينشط الناشط في حركة أمل؟ في البقاع الأوسط هناك مئات المناصرين لتيار المستقبل، لكن لا يوجد شاب واحد «ناشط» في تيار المستقبل. حتى الوزراء والنواب والمسؤولون ما عادوا ناشطين. لا يوجد غير نائب ناشط واحد في كتلة التنمية والتحرير، نائبين ناشطين أو ثلاثة في تكتل التغيير والإصلاح، نائبين أو ثلاثة ناشطين في كتلة المستقبل. لا يفترض بأحد غير النائب سامي الجميّل أن ينشط في حزب الكتائب وكتلته النيابية. التدقيق أكثر يوحي بوجود عشرين أو ثلاثين سياسياً يريدون احتكار «النشاط» في البلد كله. يفترض بالبلد الاستراخاء فيما هم ينشطون لحل مشاكله.
يكفي كل حزب أن ينظر إلى شبابه حتى يكتشف وجود العشرات أو حتى المئات ممن يشبهون شباب الاحتجاجات الأخيرة، لكنهم محبطون لا يجدون ما يفعلونه. النشاط الطلابي في كلية الحقوق ــ الفرع الثاني في الجامعة اللبنانية يقتصر على توزيع كتب الدراسة والاحتفال بعيد ميلاد بشير الجميّل وميشال عون وسمير جعجع. حتى الانتخابات الطلابية تلغى عاماً تلو آخر بتشجيع من الأحزاب السياسية.
كانت الشكوى قبل عامين من اقتصار النشاطات الحزبية على الانتخابات الداخلية فاستُعيض عن الانتخابات بالتعيين، كانت الشكوى من تحويل الأحزاب إلى ماكينات انتخابية مهمتها نقل الناخبين إلى مراكز الاقتراع كل أربع سنوات، فمُدِّد للمجلس النيابي وحُلَّت الماكينات. قرر رؤساء الأحزاب ــ جميع الأحزاب ــ عدم إقلاق راحة أحزابهم. لا شيء أكبر من «كذبة المجتمع المدني» سوى «كذبة المجتمع الحزبي»؛ حل المناصرون محل الأحزاب.
هناك شباب متحمسون، يريدون فرصة لمحاولة تغيير واقعهم وتحسينه، ماذا يتعين عليهم أن يفعلوا غير التصفيق لرئيس هذا الحزب وذلك الزعيم غداة تعدادهم إنجازاتهم التي لم تؤدّ في نهاية الأمر إلى أية نتيجة؟ السؤال جديّ: ماذا كان سيحصل بالناشطة التي تتزعم الاحتجاجات العكارية الحالية لو طرقت باب تيار المستقبل؟ كم عاماً كانت ستتصل بالأمين العام لتيار المستقبل أحمد الحريري قبل أن يجيبها؟ وكم عاماً إضافيّاً كانت ستنتظر قبل أن يحدد لها موعداً؟ وكم موعداً كانت ستحتاج قبل أن يحيلها إلى مسؤول المنطقة ليبلغها الأخير بمواعيد مهرجاناته الخطابية لتحضر وأسرتها للتصفيق له؟ البحث عن نشطاء 2005 في تيار المستقبل يبين أن غالبيتهم نزعوا الـ»بنز» عن صدورهم وأنشأوا جمعية بيئية أو حقوقية، أو انشغلوا بتطوير أعمالهم الخاصة دون مبالاة بمصير حزبهم السابق، لا لأنهم أجروا نقداً ذاتياً أو تراجعت حماستهم لمواقف المستقبل السياسية، بل لأنهم يريدون تحقيق شيء ولو بسيطاً مما كانوا يحلمون به. والأمر نفسه يبدو واضحاً عند التدقيق في وجوه المشاركين في تظاهرة 29 آب: كثيرون كانوا يشاركون في تظاهرات التيار الوطني الحر، وبعضهم كان مرشحاً على لوائح التيار في الانتخابات الطالبية أو متحالفاً معه، لكنهم ملوا الجلوس على مقاعد الانتظار. يريدون المشاركة بفعالية أكبر. بعض هؤلاء يتفهمون أهمية التقارب في الملفات السياسية الكبيرة، لكنهم لا يفهمون كيف تقف المعركة ضد «سوكلين» عند حدود التصويت في مجلس الوزراء بعد كل التعبئة الإعلامية والشعبية العونيّة ضد هذه الشركة أو كيف يتقاطع العونيون والحريريون والاشتراكيون وغيرهم في غالبية الانتخابات النقابية والمحطات المطلبية والحياتية؟ هذه نقابة محررين تمثل التيار الوطني الحر؟ «لا ولكن». هذه نقابة صحافيين تمثل التيار الوطني الحر؟ «لا ولكن». هذا قانون انتخاب يمثل التيار الوطني الحر؟ «لا ولكن». وتكر السبحة. الشاب في العشرين من عمره الذي لا يشركه أحد في معاركه السياسية ويطلب منه التصفيق فقط لا يحب الـ»ولكن»؛ يريد من يقول «لا» فقط. والحماسة لحراك يحطم آلات «الباركميتر» في جبيل وجونية بعد المنارة كانت كبيرة. الحماسة لضرب أصحاب المنتجعات السياحية من القلمون إلى الجية الذين يجعلون دخول البحر مستحيلاً لهؤلاء الشباب أكثر من مرة شهرياً كانت أكبر. وهم لا شك سيلبون أي نداء جدي لإغلاق المدارس الرسمية التي يستحيل العيش فيها والجامعات التي تشويهم وأهلهم بأقساطها. ويفيد التذكير هنا بأن زعماء الأحزاب يمنعون أحزابهم من الاحتجاج ضد واقع المدارس الرسمية والجامعة اللبنانية المخزي لأنه سيُعَدّ احتجاجاً ضد الوزير، ويعارضون التظاهر ضد الجامعات لأنها تخص رهبانيات وبطريركيات لها تأثيرها في الاستحقاقات الانتخابية.
الإدارة السيئة للاحتجاجات الأخيرة ضد النفايات حالت دون خروج كثيرين من منازلهم، موفرة الأدوات اللازمة للأحزاب لتعبئة مناصريها بوسائل مختلفة ضد الاحتجاجات، إلا أن هذه الأحزاب «شاطرة» بحقن مناصريها بالمورفين، لكنها لا تملك شيئاً تقدمه لهم على المدى البعيد. ويكفي في هذا السياق تأمل طاولة الحوار اليوم، لتخيل ما ستكون عليه الطاولة بعد بضع سنوات فقط، حتى تتيقن أن عهد مجموعة أحزاب قد ولّى وابتدأ عهد أحزاب جديدة تتكون نواتها الأولية الآن.