بعد 6 سنوات من الحرب، بدأت تظهر على الأرض الأهدافُ الحقيقية لِما ظنّه أصحاب النيّات الطيّبة «الربيع العربي». ومَن لم يكن مقتنعاً بـ»نظرية المؤامرة» وتفكيك الكيانات في الشرق الأوسط بدأ يشاهد بأُمِّ العين كيف تتلاشى «سوريا السابقة» لمصلحة «السوريات» الجديدة، وكيف يصبح مستحيلاً، يوماً بعد يوم، أن تعود إلى الحياة!
خرَج النائب وليد جنبلاط نهائياً من أجواء «المعلّقة» الشهيرة التي ألقاها في ساحة الشهداء، في 14 شباط 2007، واصفاً فيها الرئيس بشّار الأسد بأقسى النعوت والأوصاف، متوقِّعاً، كما رفاقه في «14 آذار»، أن يرحل عن السلطة.
اليوم اقتنع جنبلاط – وربّما كلّ رفاقه (السابقين)- بأنّ الأسد لن يرحل. كذلك، ربّما اقتنَع محِبّو الأسد أنه لن يعود إطلاقاً إلى الإمساك بسوريا كاملةً، وأنّ الممكن هو توسيع السيطرة إلى الحدّ الأقصى، وإبقاء التماس قائماً بين منطقة النفوذ العلوية في سوريا ومنطقة النفوذ الشيعية في لبنان.
خلال عام، تَدرَّج جنبلاط في رسمِ ما ستذهب إليه سوريا (السابقة):
في 20 آذار 2016، أدرك أنّ الفدرالية التي أعلنها الأكراد في الشمال السوري تُوافق مكوِّنات عدة، وهي بداية التقسيم. وقال عبر «تويتر»:
– سوريا التي عرفناها انتهت.
– للتذكير سايكس وبيكو طرَحا قبل 100 عام تقسيم تركيا أيضاً.
– ضروري الحفاظ على لبنان الكبير.
وقبل أيام، أدرَك جنبلاط أنّ الإشارة التقسيمية الثانية جاءت من الجنوب:
– وثيقة حوران هي خطوة نحو تقسيم سوريا.
إذاً، التقسيم بدأ يتبلوَر شمالاً قبل عام أو أكثر، ثمّ شهد بعض التعثّر، لكنّه عاد بقوّة من بوّابة الجنوب. فماذا جرى؟
في 2016، دخل الروس ميدانياً إلى سوريا ضمن توافقات شملت تركيا وإيران وإسرائيل والسعودية، فيما كان الرئيس باراك أوباما يستقيل من دوره في سوريا. ووجَد الأكراد أنفسَهم من دون المظلة الأميركية الداعمة، فاستفرَدت بهم تركيا.
عَقد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين صفقةً مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تقضي بأن يتراجع الأتراك عن هدف إسقاط الأسد والمشاركة في ضرب «داعش» مقابل ضمان الروس عدمَ إقامة كيان للأكراد على امتداد الحدود مع تركيا.
يُدرك أردوغان أن كياناً كردياً في الشمال السوري سيثير شهية أكثر من 15 مليون كردي في تركيا، أي 20 في المئة من سكّانها. فأكراد تركيا هم 56 في المئة من مجموع الأكراد في العالم. وإذا حصل ذلك فسيؤدي إلى اهتزاز حقيقي في الكيان التركي الذي يقارب العلويون فيه نحو 17 في المئة من السكان.
من مصلحة بوتين عدم تقسيم سوريا وعدم قيام أيّ كيان في الشرق الأوسط، لأنّ نشوء دولٍ إسلامية أو كيانات قومية سيهزّ الاتحاد الروسي المتنوّع طائفياً وعرقياً. وأولويتُه أن يستعيد الأسد سوريا كاملةً. وقد وافَقه أردوغان على منع التقسيم، ولكن خالفَه الرأي في مصير الأسد. فهو يرى ضرورةَ ترحيله عن السلطة من خلال حلّ سياسي يراعي كلّ المكوّنات السورية.
أقنعَ بوتين تركيا والقوى العربية الداعمة للمعارضة السورية المتطرّفة بأنّ استمرار «تربية» التنظيمات المتطرّفة سيرتدّ على هذه القوى في النهاية ويُهدّد استقرارَها. ووطّد بوتين علاقاته مع الحكم السعودي الذي كان يمرّ بعلاقات فاترة مع أوباما.
أمّا إيران فكانت مطمئنّة إلى بسطِ نفوذها ما دام الأسد قوياً، وبالتنسيق مع الصقر الروسي الذي يُحرّك خيوط اللعبة بسهولة. وبدت إيران مرتاحة إلى الربط بين حلقات نفوذها من طهران إلى بغداد فدمشق، وصولاً إلى بيروت.
بتغيير الإدارة الأميركية، عادت عقارب الساعة في سوريا إلى نقطة سابقة: أمسَكت واشنطن بالمبادرة مجدّداً، تراجَع الروس تكتياً، إيران واقعة تحت الضغط، تركيا في ترقُّب، إسرائيل تُخطّط للاستثمار في الأزمة، ووحدهم السعوديون تلقّوا دعماً ستُترجمه صفقات السلاح الأميركي بمليارات الدولارات وزيارة الرئيس دونالد ترامب للرياض هذا الشهر.
أرسَل ترامب إشارةً قوية إلى الروس والإيرانيين والأتراك معاً بالغارة التي شنّها على مطار الشعيرات. وهدأ كلّ شيء في سوريا ترقّباً للخطوة الأميركية التالية. وبات الروس والإيرانيون محشورين: هل يَقبلون بتغيير سياسي في السلطة يُبقي سوريا موحّدةً، أم يتمسّكون بالأسد في مقابل اعترافهم بحقوق الفئات كافة في سوريا؟
وفي عبارة أخرى، هل يَقبل الروس والإيرانيون بموطئ قدم في المنطقة التي يسيطر عليها الأسد، في سوريا المقسّمة، أم يغامرون بسقوطه وفقدان كلّ شيء؟ الأرجح هو أنّهم يفضّلون سوريا المقسَّمة، حيث الأسد يضمن لهم نفوذَهم على بقعة منها.
لذلك، بدأ الروس والإيرانيون، مكرَهين، يفكّرون في الخطة «ب» في سوريا، أي القبول بمناطق نفوذ. وبديهيّ أن يتقاطع ذلك مع مصلحة إسرائيل الساعية إلى نشوء دويلات متفرّقة ضعيفة في الشرق الأوسط على أنقاض الدول الحالية.
هذا الاتّجاه سَمح لأركان «المعارضة الجنوبية» بإعلان وثيقة حوران، الفدرالية المظهر، والتي رحَّبت بها إسرائيل. وهي تُشبه دستور الدولة المستقلة. فيما تبنّى الروس والإيرانيون والأتراك في «آستانا 4»، مجبَرين، «مناطق الحدّ من التوتر»
الـ 4، حيث الأسد يمسِك بـ «سوريا المفيدة»، باعتراف شامل.
وبذلك يتبلور مسار الفرز في سوريا:
– منطقة للأكراد شمالاً يتمّ التفاهم إذا كانت ستمتد إلى كامل الحدود مع تركيا أم تقتصر على المنطقتين الشرقية والوسطى.
– منطقة حوران جنوباً.
– «سوريا المفيدة».
– مناطق المعارضة السنّية «المقبولة».
وعلى الأرض، بدأت تُقام نقاط تفتيش بين «سوريا المفيدة» والمناطق الجنوبية، ودخلَ الأردن إلى درعا وتستعدّ تركيا للدخول إلى أدلب.
وأمّا على الطاولة، فخبراء روسيا وتركيا وإيران يَرسمون الخرائط التفصيلية لمناطق النفوذ، لـ 6 أشهر تجريبياً. إنّها «بروفا» البدايات، ثمّ «لسنين كثيرة يا سيّد»!
سوريا كانت هنا. ستتوزَّعُها القوى النافذة، وفق نموذج أوكرانيا وجورجيا، وتنتهي بالنماذج الأخرى المقسّمة في أوروبا. ومثلها كيانات شرق أوسطية أخرى، على الأرجح.