قد يكون رئيس الأركان الأميركي الذي تقاعد أخيرًا هو أرفع مسؤول أميركي يتحدث بهذا الوضوح عن تقسيم العراق كحل وحيد لمشكلات الشيعة والسنة هناك، بعد مقتل الآلاف في حرب طائفية أخذت على مدار السنوات شكلاً بشعًا.
ليست هذه هي المرة الأولى التي تُطرح فيها فكرة تقسيم العراق على لسان مسؤول أميركي، فقد طرحها قبل ذلك نائب الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن عندما كان عضوًا في مجلس الشيوخ، طارحًا 3 دويلات شيعية وسنية كردية يقام بينها كونفدرالية، وذلك لتجنب الحرب الطائفية.
ومثلما هوجمت أفكار بايدن التشاؤمية بضراوة، حدث هذا مع رئيس الأركان الأميركي أودريينو الذي كان سابقا قائدًا للقوات الأميركية في العراق، والذي كان أكثر صراحة ووضوحًا من بايدن في التشاؤم، واتهمه رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي بالجهل إزاء الواقع العراقي.
وهذا صحيح، فالتقسيم لا يمكن أن يكون هو الحل كلما نشبت مشكلة في دولة عربية، خصوصًا أن تداخل العوامل الخارجية مع الحرائق السياسية التي تشهدها المنطقة واضح، ولم تعد الأزمة في العراق وحده، فهناك أوضاع شبيهة في ليبيا واليمن، بخلاف سوريا التي أصبحت مصنعًا للفوضى، واستغلتها التنظيمات المتطرفة مثل «داعش» لتصدر الإرهاب ليس للمنطقة وحدها، ولكن للعالم كله. وإذا أخذنا بالمنطق الذي طُرح حول الحالة العراقية، فإننا سنجد أن منطق التقسيم يمتد إلى دول أخرى، فالطرح نفسه ينطبق على سوريا التي تحول ملايين من سكانها إلى لاجئين في دول مجاورة، بينما البعض الآخر يجرب حظه عبر القوارب في المتوسط، وكذلك ليبيا التي لا توجد فيها مشكلة شيعة وسنة، فظهرت فيها مشكلات المناطقية والتقسيم على هذا الأساس، وأصبحت أيضًا بؤرة لتصدير الفوضى إلى أوروبا ودول الجوار. اليمن أيضًا حوّله الصراع السياسي الذي تسبب فيه الرئيس السابق علي عبد الله صالح إلى ساحة حرب، وعادت المشكلات المناطقية القديمة السابقة للوحدة إلى الظهور على السطح.
السؤال الذي يطرح نفسه ويبدو منطقيًا أنه إذا لم يكن هؤلاء يستطيعون العيش بسلام مع بعضهم البعض، فإن التقسيم قد يكون هو الحل لوقف الاقتتال وأنهار الدماء التي تراق. لكن من السذاجة الاقتناع بهذا المنطق، فالقتل والعنف لن يتوقف بمجرد الانفصال، وهناك شواهد؛ فتنظيم داعش، الذي لا يقدم أحد تفسيرًا مقنعًا للكيفية التي ظهر بها على الساحة بهذه القدرات التمويلية والتسليحية ممتد ما بين العرق وسوريا، وليبيا، ويمارس القتل العابر ليس فقط للحدود لكن أيضًا للبحار.
وما كان ليظهر تنظيم مثل «داعش»، أو ميليشيات مثل الحوثيين في اليمن، ما لم تكن الدولة الوطنية في هذه المناطق قد ضعفت وحلت محلها الميليشيات التي تستفيد من الفوضى، وتغذيها.
لن يحدث التقسيم في العراق أو ليبيا أو سوريا على طريقة تشيكوسلوفاكيا السابقة، أو باستفتاء مماثل لاستفتاء اسكوتلندا، بل على العكس سيكون التقسيم على نمط أسوأ مما حدث في تفكك يوغوسلافيا السابقة، وسينجم عنه موجات عنف ودم أكثر سوءًا مما شاهدنا حتى الآن. الكل يعترف الآن بأن أكبر خطأ ارتُكب في العراق هو تفكيك الجيش ومؤسسات الدولة من دون أن يكون هناك بديل، والغريب أن الأخطاء تتكرر، فقد جرى التدخل العسكري الغربي في ليبيا لإطاحة القذافي دون أن تكون هناك خطة لليوم التالي لإعادة بناء ليبيا، وكذلك في سوريا التي بحت الأصوات من أن ترك الانتفاضة دون تدخل لحمايتها سيحولها إلى حرب أهلية ومرتع للإرهاب.
الحل ليس في التقسيم وإنشاء عشرات الدويلات الجديدة التي لا تملك أساسًا للاستمرار، ولكن تصحيح الأخطاء التي ارتكبت، وتقوية الدول، وترسيخ وجودها على أسس وطنية وعصرية.